كتاب " بونا هكتور " ، تأليف جورج فرشخ ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب بونا هكتور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بونا هكتور
كان التغيير آخذًا طريقه في معظم الحقول، ما عدا الحقل الديني الماروني. كان محصورًا ومسيجًا، ومقفلًا عليه بقفل من حديد أكله الصدأ فتعطّل. وكان لبنان يغلي بالحياة والمشاريع، كأن اللبنانيين لم يصدقوا أنهم خرجوا سالمين ومتّحدين، من ثورة 1958، لا غالب فيهم ولا مغلوب. انصرفوا إلى العمل، ما عدا إهدن-زغرتا التي ظل أهلها على فرقتهم وقسمتهم.
وصل الخوري الشاب إلى ميناء بيروت الدولي على متن الباخرة الإيطالية باتشي (Pace) . لم تكن تنتظره إلا رحمة الله.
سؤال: لم تخفْ من دوار البحر؟
بونا هكتور: كنت ألبط الحائط فأهدّه، وأخبط رجلي في الأرض فتهتزّ. كان كل شيء على متن الباخرة يتمايل، وأنا الثابت.
- التواضع حلو.
بونا هكتور: والحقيقة أحلى. لم تكن رحلتي الأولى في الباخرة. منذ إرسالي إلى إيطاليا في العام 1952، قمت بعشر رحلات ذهابًا وأيابًا، ودائمًا على متن باتشي. كان عندنا على خط بيروت البحري باخرتان إيطاليتان: باتشي وإيسبيريا (Esperia) . المسلّي في الموضوع، أنني كنت أقع دائمًا على باتشي. ولم أتذمّر أبدًا، بالعكس، كنت أشعر وكأنني في بيتنا. كنت أرتاح كثيرًا وأتأمل أكثر.
في ذلك الفضاء الفسيح بين الزرقتين، والباخرة تتمايل به، كانت إهدن-زغرتا ترافقه. كان يفكر فيها، ويخطط لها، ويرسم التصاميم. ويصلّي ويقرأ، استعدادًا لخدمتها. كان صامتًا، يحاور البحر، ومن تلك الحوارات خرج المستقبل.
حقيبته دائمًا مليئة، في الذهاب والإياب. كتب، وكتب، ودفاتر وأقلام. وأثمن ما فيها حذاء كرة القدم، ونسخ من أطروحته.
من المرفأ إلى البرج فشختان، وبـ"البوسطة" إلى طرابلس في نقليات الأرز. لم يكن الأحدب قد فتح بعد مكتب النقليات المجهز بأحدث الحافلات المكيّفة وذات المقاعد المرقمة. وإلى زغرتا، بربع ليرة.
كانوا بانتظاره بقلوب ملؤها الفخر، والاعتزاز، والشوق. كان دائمًا لغيابه فراغ. قبّل والدته حسيبة وأخته خزعة ، وأشقاءه الثلاثة بالترتيب: بدوي ، و بطرس ، و جورج . كي لا يحتج أحد. آل يوسف الدويهي دقيقون وحريصون على التراتبية، وعلى ألا يأخذ أحدهم عادات سيئة، أو يسجّل سابقة خطرة فيختل النظام العام. كلهم عطف ولطف، وكل واحد في مكانه، فتنتظم الأمور. وإذا غلّط أحدهم لن يحاكموه، ولكنهم يسمّعون وينبّهون ويلطّشون. وإذا ثنّى وثلّث، لن تقوم القيامة. كلّنا معرّضون للغلط. والخوري حاضر دائمًا للصفح والغفران. وإذا تعظّمت الأمور، أم الخوري لها كلمتها المسموعة. كلهم مشاكسون، ولكن بالدور. صغيرهم جورج يزيدها أحيانًا. بالشهامة المشهود لهم بها، يغفرون له، أو يتجاهلونه، أو يعاتبونه، فهو الصغير. وقد تخرّج من الجامعة بشهادة حقوق، واحتل منصب مدير في المصرف المركزي، وانتزع مركزًا مرموقًا في المجتمع، وتزوّج، وأنجب، وزوج، وأصبح جدًا... ولا يزال الصغير في بيت يوسف الدويهي . سبحان الله.
ارتاح الخوري ليلة أو ليلتين، وزار كنيسة السيدة، وأكل كبة نية، وكبة مشوية، وكبة بالصينية، وكبة أقراص، وكبة باللبنية، وكبة مطبقة، وكبة كباكيب، وكبة كذابية، وكبة أرنبية. وذهب إلى بكركي، يقبّل يدي غبطة البطرك بولس بطرس المعوشي (9)، ويتبرك منه ويطلب رضاه.
كان اللقاء بينهما لقاء الأحبة. لقاء الأب العطوف والفخور، والابن الوفي والشكور، يغمر كلاً منهما شعور بالسعادة، لأنهما من موقعيهما، قام كل منهما بالواجب على أكمل وجه، البطرك بإرساله الإكليريكي إلى روما، والخوري لأنه لم يخيّب ظن البطرك به. عاد بشهادة دكتورا، وبرغبة قوية وصادقة بالعمل في حقل الرب في المكان الذي يضعه فيه رأس الكنيسة المارونية.
البونا هكتور: بالفعل، كان اللقاء أكثر من ودي. كان أبويًا من جانبه وبنويًا من جهتي. كنت أشعر بفرح يطفح من نفسي وأنا أركع أمامه، وأطلب منه بركته. وأحسست أنه يباركني بعطف، ويلمس رأسي بيمينه. ويرفعني برقة الأب الفرحان بعودة ابنه من رحلة طويلة. كان يخشى أن تبتعد به عن الحظيرة.
بعد أن اطمأن صاحب الغبطة إلى أوضاعه الشخصية، وإلى نتيجة تحصيله العلمي، سأله عن مشاريعه المستقبلية.
البونا هكتور: تمنيت أن يرسلني غبطته خادمًا لرعية إهدن-زغرتا. شعرت كأنه فوجىء.
سؤال: ربما تساءل بينه وبين نفسه: خمس سنوات في روما وباريس، في أهم المدارس والجامعات وأشهرها في اللاهوت والفلسفة، وشهادة دكتورا، وأطروحة عن ابن القلاعي ، ويريد أن يعود إلى إهدن-زغرتا؟ هل يوجد في إهدن-زغرتا من يعرف من هو ابن القلاعي ؟ (10) .
البونا هكتور: لن أتيه في الافتراضات ولا في التكهنات، ولن أزعم أنني عرفت ماذا يجول في رأس غبطة البطرك. لكنه قال لي بلهجة الناصح والمرشد: "لماذا إهدن-زغرتا؟ فيها عدد كاف من الكهنة. وماذا ستفعل في إهدن-زغرتا؟"
سؤال: ألا يقصد ماذا ستفعل في إهدن-زغرتا بالعلم الذي تعبت كي تحصل عليه؟
البونا هكتور: أترك لك أن تتصوّر ما تريد. المهم، أجبته أنني أريد أن أخدم في إهدن-زغرتا، عند أهلي وأبناء مدينتي. شعرت، مرة ثانية، أنه تردّد لحظة وانقبض، ثم قال: "كما تريد، الله يرضى عليك. إذهب إلى إهدن-زغرتا. انشا الله تؤثر عليهم وتضع في رؤوسهم اليابسة شيئًا من العقل، لا أن يؤثروا فيك ويعملوك مجنونًا مثلهم".
سؤال: كان عنده روح النكتة ويسمح لنفسه بأن يمازح خوريًا شابًا، عائدًا لتوّه من روما؟
البونا هكتور: كان قوي الشخصية، حاضر البديهة، إذا أراد أن يضحك يعرف كيف يأتيها. وطبعًا لم يكن مستعدًا لأن يهب ابتسامته لأول قادم إليه. وقفت بين يديه، وركعت ثانية، وطلبت أن يباركني ففعل. تناولت يده وطبعت عليها قبلة حارة. استدرت وخرجت.