قراءة كتاب بونا هكتور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بونا هكتور

بونا هكتور

كتاب " بونا هكتور " ، تأليف جورج فرشخ ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

مجزرة مزيارة وضعت أهالي إهدن-زغرتا، والشباب خصوصًا، أمام مأزق أخلاقي كبير. كيف يقوّمونها؟ كيف التعاطي معها؟ والذين لم يكن عندهم تحليل سياسي لأسباب المجزرة، ولا لدوافعها وأهدافها، سجّلوا أن الحكومة قصّرت، حتى لا نقول دبّرت. ولكن مفاجأتهم كانت في الشراسة الزغرتاوية، في الوحشية، في سهولة قتل معارف وأقارب وجيران...

مزيارة (1957) زلزلت إهدن-زغرتا، ولم توقعها. سقطت دعامات قوية في بيوت كبيرة وأخرى عادية. وظلّت واقفة، والخطر محدق بها. أقلّه في زمن الارتدادات الزلزالية، وأعيد ترميمها فاستقامت. الزلزال الذي رسم خريطة سياسية جديدة أدى إلى عمليات "تنظيفالأحياء والحارات. بمعنى من المعاني، كنا السباقين إلى ممارسة التنظيف العائلي "والعرقي" الذي سيمارس في الحرب الأهلية التي اندلعت في 13 نيسان 1975، ولم تنتهِ بعد (13).

لم يكن موجودًا في مزيارة أي حضور حكومي، لا أمني ولا رمزي. علمًا أن المطران عبد ، صاحب النعي لحضور الجناز، كان قد أبلغ المحافظ باحتمال أن يحضر الزعماء الزغرتاويون المرشحون في إطار جولاتهم الانتخابية على القرى. وعندما ذكّره بالموضوع وبدقة الوضع أرسل المحافظ دورية من ثلاثة عناصر: رقيب ودركيين. ولكن هل الإنسان بحاجة إلى من يردعه عن قتل ابن عمه، وابن خالته، وجاره ورفيقه؟ وفي الكنيسة؟ وفي صلاة الجناز؟ ويدّعون أنهم مسيحيون وموارنة مؤمنون؟

هذه التفاصيل لم تعد خافية على أحد في إهدن-زغرتا؟ وظلت الحيرة والاستفظاع ردّ الفعل الشائع، وسكنهم هاجس أن تكون إهدن-زغرتا قد دخلت في مرحلة من التقهقر، والانزلاق نحو الهاوية. لست ادري إذا كان كثيرون واعين لذلك بمثل هذه التعابير. إنما الحالة النفسية التي سيطرت على المدينة تدعم هذا التفكير، من التشاؤم حتى اليأس. وطبعًا، لم تعمل الحكومة شيئًا يمكن أن يساعدهم على تجاوز المرحلة أو التخفيف من وطأتها. لا هي ساعدت الفريق الذي يعتبر نفسه منتميًا إليها، بغير إعطائه قطعًا من السلاح، وغالبًا ما كانت قطعًا مستعملة، وغير صالحة، ومصادرة من المواطنين. وبالمقابل، أمعنت بملاحقة الفريق المعارض والتنكيل به. وكانت النتيجة أن هذا الفريق ازداد تعلقًا بخصوم الرئيس شمعون .

وقُتل ضابط من قوى الأمن الداخلي، برصاص شاب زغرتاوي، في الأسبوع الأول من شهر آب 1957، بعد شهرين من مجزرة مزيارة. لم يكن للجريمة علاقة بالمجزرة، ولا بالسياسة، ولا بحوادث إهدن-زغرتا. كانت لها علاقة بالعَرض، والشهامة، ومحاولة استغلال الوظيفة. ورجال الدرك، الذين غابوا كليًا عن الساحة، يوم كانت المدينة بأشد الحاجة إليهم، أقدموا، برجولة خارقة، على انتهاك حرمات المنازل، انتقامًا للضابط القتيل، زارعين فيها الفوضى، مروّعين الأطفال، مخرّبين محتوياتها، خالطين الحبوب: العدس، بالرز، بالحمص، باللوبياء، بالبرغل، محطّمين الأبواب والنوافذ، والصحون. وكل ما وصلت إليه كعاب بنادقهم، من خوابي زيت وألفيات (14) العرق.

البونا هكتور: لم أكن في إهدن يومها.

الراوي: لحسن حظك. بعد تلك الحملة الهمجية، وكان البطرك المعوشي في الديمان لقضاء الصيفية، قرّر أن يزور إهدن ويعزّي أهلها، ويقوّي عزائمهم.

استغرب الإهدنيون. لماذا يأتي اليوم؟ ليس ثمة ضرورة كي يزعج سيدنا خاطره. إلا إذا كان يريد أن يلعب سياسيًا إهدن-زغرتا ضد الرئيس كميل شمعون ، الطامح بالتجديد، وأكثرية الزغرتاويين ضد التجديد. معظمهم يعتبر أنه جاء دور إهدن-زغرتا بالرئاسة، وأنها ذاهبة إلى نائبها حميد فرنجية ، عند انتهاء ولاية الرئيس شمعون .

لكن البطرك جاء. يأتي إلى بيته وأهله ورعاياه. وليس بحاجة لسبب أو حجة أو ذريعة. يكفي أن يقول أنا آت، حتى تحضر النفوس، وتتألب الجموع. وبينما كان ينتقل من حي إلى آخر في إهدن، كانت بانتظاره الست ماري كرم ، أخت النائب السابق يومها، يوسف بك كرم . وحين أطلّ وخلفه جمهور من المؤمنين الملتهبة مشاعرهم، اقتربت حتى أصبح منها على مرمى صوتها الرقيق، الذي لم يتعوّد الصراخ، ورفعت يدها تقول وهي تهزّها في وجهه:

"يا بطرك الموارنة، جئتنا اليوم لتعزيتنا بالعدس والرز والفاصوليا والحمص والبرغل لأنهم خلطوها ببعضها البعض؟ لأنهم كبّوا الزيت وكسروا ألفيات العرق؟ لأنهم مزّقوا الفرش وخلّعوا الأسرّة؟ لأنهم حطّموا الأبواب والنوافذ؟ من أجل هذا جئت لتعزيتنا، اليوم؟

"يا بطرك الموارنة، أين كنت يوم كانت الرجال مرمية على الأرض ملطخة بدمائها؟ أين كنت يوم كنا بحاجة لمن يساعدنا على رفع الجثث؟ على اختيار مدافن جديدة لها؟ خمسة عشر قتيلاً من خيرة الشباب، في يوم واحد، ولا تجد سببًا ولا مبررًا لزيارة زغرتا؟ يا بطرك الموارنة، رجالنا أثمن من أطنان العدس والرز، وأغلى من كل ممتلكات الأرض والمال".

انسبع البطرك. وجم. أخذته الجمدة. ولم يخرج منها إلا ليقفل عائدًا. وبدلًا من أن يعالج الموضوع بحكمة وتسامح ومحبة مسيحية، بعد عودته إلى كرسيه في الديمان، قاطع الزغرتاويين، وغضب عليهم. وغضب البطرك من غضب الله. وغضب أهالي القتلى ممن؟ وزاد من غيظه أن رعية إهدن-زغرتا، عندما حلّت الذكرى الخمسون لسيامته كاهنًا، تميزت عن سائر الرعايا في لبنان والخارج، وامتنعت عن تقديم هدية ولو رمزية في المناسبة، اعتراضًا على عدم تعيين مطران لأبرشيتها. كانوا دائمًا مشاكسين.

البونا هكتور: ليس عندي هذه التفاصيل. والبطرك المعوشي لا يخاطب بهذه اللهجة. هذا الكلام لا يوجه إلى رئيس الطائفة، إلى رأس الكنيسة المارونية. هذا غلط. هذا لا يجوز.

الحقيقة، أن زيارة البطرك إلى إهدن لم تكن عملًا رعويًا بريئًا، ولا كان التصدي له عفويًا مجرّدًا من خلفيات. البطرك المعوشي كان على خلاف حاد مع الرئيس كميل شمعون . الكرميون والدويهيون كانوا إلى جانب الرئيس شمعون ، ومع التجديد له. وكانت الزيارة مناسبة ليؤكد كل من الفريقين موقفه. ومن دفع الثمن؟ ساد الانطباع أن إهدن-زغرتا ركبها النحس...

مجزرة مزيارة وجرائم القتل التي تلتها، يتّمت أطفالًا قبل أن يولدوا. في يوم قال لي أحدهم: "كيف تعرف من أنت إذا ولدت بعد مقتل أبيك؟ كيف يمكن أن تصدق أنك بشر إذا غادرتك والدتك إلى القبر، وطولك بالسنتيمترات؟".

الصفحات