كتاب " البناء والإنتماء - الجزء الأول " ، تأليف عبد اللطيف الحرز ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب البناء والإنتماء - الجزء الأول
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البناء والإنتماء - الجزء الأول
إن مدارج السالكين ليست في حقيقتها سوى قصة الإنسان مع نفسه. في حين الأدلة والبراهين، هي قصته مع غيره. في مدارج السالكين يحاور نفسه من خلال الآخرين، وفي الأدلة والبراهين هو يحاور الآخرين بواسطة نفسه. لكن افتقاد عنصر اليقظة المُناسب، وتمازج الغايات، يؤدي إلى إفقار مشترك بين الأمرين، فهو إن أراد نفسه وقع في الآخرين، وإن طلب الآخرين وقع في غربة النفس.(وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ).
مدارج السالكين أو منازل السائرين هي بذاتها قد تتحول إلى حجاب حاجز عن السلوك، قد تتحول إلى غيتو ذهني أو خطابي يمنع السير. تماماً مثل فقيه أو مثقف، يفرح بتأليف كتاب ويخسر نفسه. ومن هنا تحول الوجود إلى نظرية الوجود (كما في كتاب العلامة الطباطبائي: أصول الفلسفة) بينما الوجود هو الحياة موضوع استنباط النظرية التي انقلبت لدى هؤلاء وصارت تتحكم في الوجود. وبما أن فهم الوجود كان أساس فهم التوحيد لدى فلاسفة الكلام وعلمائهم، فقد تم تحويل التوحيد إلى نظرية وقضية ذهنية تماماً مثل الوجود. لذا نجد أبو البركات البغدادي مثلاً، في كتابه المعتبر في الحكمة الإلهية يذكر مسائل الزمان والجوهر والعرض ضمن مسائل الإلهيات بالمعنى الأخص، وهو ما سوف يكرره العلامة الطباطبائي مرة أخرى في الجزء الثاني من كتابه أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. تحول الوجود إلى تأملات مُنعزلة، والتوحيد إلى كتاب!.
لا بد لكسر هذه الدائرة المفرغة من «نفح الرحمن» كي يتحقق «النور بالإبصار» فيكون البصر بصيرة، بصفة وعي بمكنون النفس. وتكون البصيرة بصراً، بصفة وعي بحقيقة العالَم. فنحن نُضحي ببعض وقتنا ومالنا وصحتنا وجهدنا من أجل بلوغ التثقف بالأشياء، نثقفها؛ أي لا أن نُصيبها فقط، بل نخترقها، ونتجاوزها فتكون هي جزءاً من استخداماتنا لا أن نكون نحن جزءاً من استخداماتها. كذلك نمنح جزءاً من الأشياء ومن أنفسنا كي نكوّن شخصية مُتماسكة مع نفسها، في مسيرة ارتقائية تطمح إلى معالي الأمور وليس توافهها، أن ننال من شجرة الحياة الثمرة، وليس الحشائش المُتيبّسة التي تتلاعب بها رياح خريف الوعي الإعلامي، أو ربيع التجديد السياسي للنهب، أو صيف صراع الصخب الديني. فإذا العمر ينقلب كله إلى شتاء يتيبس فيه العقل وتصفرّ فيه العاطفة، نمنح جزءاً من الذات كي نتجاوز الذات «صدقة تطهرهم وتُزكيهم بها». فالإنسان «ابن الأرض» كبذرة صالحة مستقبلها تفتح الجمال، ومنازل السعادة العليا. ولا يكون ابن الأرض انتهاء لكون ذلك مصير البذور المُصابة والميتة.
وفي قصيدة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر، المذكورة آنفاً، نجد ذلك الاهتمام المُبكر بمسألة الولادة الثانية للإنسان، بعيداً عن طريقة في الحياة تكون نهايتها هي الموت مرتين. يبدو محمد الصدر هنا متأثراً بقصيدة الشيخ الرئيس ابن سينا، هناك نكهة أفلاطونية من ذلك الغصن الذي تم اقتطاعه من الشجرة، فإذا هو لا ينشد سوى الحزن وشكوى الفراق، ذلك الناي الذي صوره فيما بعد جلال الدين الرومي واقتبسه منه جبران خليل جبران. لكن القطع تمّ والغربة حاصلة فكيف الطريق، وبمَ التعلل؟!. لا يبقى هنا سوى التسليم بالأمر ومحاولة التغلب عليه لأنه هو قدر إلهي، الحب أمر بالابتعاد فيكون امتثال البُعد قرباً.
وإذا كنا نستفيد من قوله تعالى في وصف مقام النبي موسى عليه السلام:(إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)حيث استخدام صفة من الصفات الفعلية، وصيغة حضور الأنا الفردية. فقوة موسى هي في حضور الله بالنسبة إليه وعنايته به. بخلاف وصف القرآن لحالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، حيث استخدام اسم الله الجامع، وصيغة الجمع، فقوة النبي هي في حضور الله للجميع وعنايته بالناس كافة.
كذلك نحن نستشعر هذه الـ(نا) في فلسفتنا واقتصادنا وفي محاورة الآخر في اليوم الموعود وما وراء الفقه. المبدع هنا يسافر بين قارات العلم، يبحث عمن يشاكله في العبقرية ودقة المعلومة، بعيداً عن سطحيات مجتمع الانغلاق والتخلف الذي يُفكر فقط في هواجسه الذاتية الضيقة.
ورغم بكائية قصيدة محمد الصدر وتكرارها لصوت وعظي تقليدي، فإننا نلاحظ حضور الأمل في أشد حالات النفس جزعاً، نفس كسبت الطمأنينة بالأخلاق الصالحة، والنقد الواثق المطمئن بوعي مسالك النقد والفهم وقراءة منهجية لمشاكل الحياة وأزمة العصر. إذ إن ابتعادك عن ديار العطر تكون مضاعفة فيما لو توقفت عن المناشدة، وهنا يكون حتى التذكر، حتى الشكوى والبكاء، محاولة لاسترجاع زمن العطر، فعلامة المُحبّ الحقيقي عدم نسيان حبيبه. ومن عشق شيئاً تكرر ذكره له. كأن محمد الصدر هنا يتأفف من محيط المؤسسة الدينية الذي كان طالباً مجرداً فيه. نستشعر ألمه في شم نتانة روائح الموتى في تمثيل الدين والسياسة والمجتمع. إنه يقرّ بأن عالم الطيب بعيد عنه، لكنه لا يستسلم لأيدي الموتى التي تسحبه نحو قبور المال والشهرة والأكل بالدين، حرقة قلب ترفض أن تكون المحنة تبريراً للاستسلام، فتكون الخطايا جزءاً من العطالة((2)). تخيل عالم العطر، تمني الابتعاد عن العمل المشابه للجماعة، كلها أحاسيس الذات المُبدعة للعبقري الذي يشعر أن المحيط أصغر من أن يحتويه. وكيف يُمكن احتواء من هويته الأمل ومطلوبه التغيير وزاده العزم؟!.