كتاب " البناء والإنتماء - الجزء الأول " ، تأليف عبد اللطيف الحرز ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب البناء والإنتماء - الجزء الأول
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البناء والإنتماء - الجزء الأول
المستوى الرابع: إنه من المحرز بوعد الله سبحانه وتعالى حصول ذلك فإن كان البشر عاجزين عنه، فالله سبحانه هو القادر عليه.(فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)وقال تعالى:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاۚ)، وذلك بعد أن نعلم أن ـ الله لا يخلف الميعاد ـ وقال:(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِۗ).
ولكن يبقى وقت التنفيذ في علم الله وقدرته، ونحن أقل وأجهل من أن نعلمه ونقدر عليه. وقد قربت هذه الآية نفسها إلى الأذهان عدم استبعاد الأمر حيث قال جل جلاله:(لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). فإذا كان هذا حاصلاً فيما سبق فما البعد في أن يحصل فيما يأتي من الزمان؟ ونحن نعلم أن (لله جند السماوات والأرض) وأن (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)وأن(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)وأنَّ (للبيت رب يحميه).
المستوى الخامس: إن أي فرد أو جماعة انسدت أمامها الأبواب التي عرفناها في المستويات السابقة، وتعذر لها فهم أصول الدين وحقيقة الإسلام تعذراً كاملاً، لأي مانع من الموانع، كالمانع العقلي أو البعد المكاني أو التدني الثقافي أو الانشغال الدنيوي أو الغفلة أو النسيان أو غير ذلك، فإنه يكون معذوراً عما عجز عنه، والله تعالى أولى بالعذر لا محالة. ولا يحتمل أن يعاقب عليه يوم القيامة.
الأمر الثالث: مما ينبغي التعرض له حول أصول الدين. إن هناك علوماً ثلاثة مكرسة في الإسلام للبحث حول أصول الدين وحقيقة الدين هي: علم الكلام والفلسفة والعرفان، وليس علم الكلام فقط بحسب المعروف والمشهور.
وقد فرقوا بين علم الكلام والفلسفة، بالرغم من كونهما معاً منحى عقلياً بن المتكلم (في علم الكلام) يأخذ العقائد الإسلامية ويحاول البرهنة عليها في حين أن الفيلسوف (في الفلسفة) لا يأخذ هذا مسلماً بل يسير إلى حيث يقوده البرهان أياً تكن نتيجته. وإن كنا نعتقد كمسلمين أن كل من بحث في صحة العقائد الإسلامية فإنه سيتوصل إلى صحتها؛ وأن كل من توصل إلى غير ذلك فهو متوهم ومبطل.
كما فرقوا بين علم الكلام والفلسفة، بأن علم الكلام خاص بالحديث عن العقائد الإسلامية، في حين أن الفلسفة أوسع من ذلك، من حيث أن الفيلسوف ينظر إلى الوجود ككل.
أما الفرق بين هذين العلمين من ناحية والعرفان من ناحية ثانية، فهو أن هذين العلمين يشتركان في المنحى العقلي أو الذهني. ولا يمكن أن يتعدياه في حين أن العرفان تعبير آخر عن معرفة حقائق الأشياء بالحس والوجدان وهو ما يعبر عنه في المنطق بالعلم الحضوري. لا يختلف في ذلك عالم الخلق عن عالم الأمر عن عالم اللاهوت عن عالم الأسماء والصفات. إلى غير ذلك.
وقد أشار إليه القرآن الكريم في عدد من آياته. منها قوله سبحانه:(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)، يعني بدون حاجة إلى دلالة ومعجزة. وقال سبحانه:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ). وقال جل جلاله:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). يعني أن الخشية الحقيقية لا تحصل ولا يمكن أن تحصل إلا بعد المعرفة الحقيقية.
ومن هنا يمكن القول بأن لأصول الدين ثلاثة مستويات من الإدراك باعتبار هذه العلوم الثلاثة. فإذا أضفنا إليه المستوى العام المتدني للفهم لها، باتت أربعة كما يلي:
المستوى الأول: هو المستوى العام المتدني في الفهم، حيث تكون الفكرة غائمة والبراهين إجمالية كما سبق. في حين أن المستويات التالية كلها واضحة ومعمقة.
المستوى الثاني: هو المستوى الكلامي، حيث يراد فهم أصول الدين والاستدلال عليها بالعقل من زاوية إدراكه لهذه الأمور.
المستوى الثالث: هو المستوى الفلسفي، حيث يراد فهم أصول الدين والاستدلال عليها بالعقل من زاوية إدراكه المطلق لكل شيء، وعامة عالم الوجود.
المستوى الرابع: هو المستوى العرفاني، حيث يراد فهم أصول الدين والاستدلال عليها بالحس والوجدان المباشر الناشئ من الاطلاع على حقائق الأشياء وعلى واقعها الأصلي، كما أشرنا.
وهنا ناحيتان يحسن الالتفات إليهما:
الناحية الأولى: إنه قد يخطر في الذهن أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الواصلة إلينا عن طريق الكتاب والسنة، وليست هي أحد هذه المستويات الأربعة إطلاقاً.
وجواب ذلك: إننا إن تحدثنا عن مستويات القادة المعصومين سلام الله عليهم، فمعرفتهم هي أعلى المعارف وأدقها وأوسعها بلا شك. إلا أن تلك من أهم الأسرار الإلهية التي لا يعطونها إلا لأقل القليل، لا إنهم يبينونها من خلال السنة الشريفة.
وإن تحدثنا على مستوى ظاهر الكتاب والسنة، فهو ظاهرة متنوعة الفهم ومتعددة الاحتمالات في الجملة. ومقصودي أنه يناسب كل المستويات الأربعة على الإطلاق، بحيث يأخذ كل واحد منه ما يلائمه ويتفق مع فهمه ومستواه. ولا يقتصر على واحد منها أو غيرها، كما زعم السائل.
ولذا يستدل بها أهل كل من هذه المستويات على فهم وصحة اعتقادهم المناسب ـ في الحقيقة ـ لمستواه الذهني بما فيه المستوى الرابع العرفاني المعمق. إلا أن هذا الفهم من الكتاب والسنة لا يدركه إلا ذووه. وهم المؤملون لذلك أساساً.
ومن هنا نجد أن كلمات الكتاب والسنة المقدسين، مناسبة لجميع العقول والمستويات وقد أعطت لكل واحد ولكل جماعة ومجتمع ما ينفعه ويهديه. وهي لم تبخل بأعمق الأفكار، غير أنها خاطبت كل واحد بمقدار عقله وتحمله. فمن لم يكن أهلاً للتحمل يكفي أن يبقى غافلاً عن الفكرة وغير فاهم لها من ظواهر الكتاب والسنة.