أنت هنا

قراءة كتاب سمرقند

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سمرقند

سمرقند

كتاب " سمرقند " ، تأليف أمين معلوف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
في أعماق المحيط الأطلسي كتاب. وقصّته هي التي سأرويها.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

«أبو علي»، إنها أكثر الكُنى شيوعاً. ولكنْ عندما يذكرها مُثَقَّف في بُخارى أو قُرطبة أو بَلْخ أو بغداد بمثل هذه النبرة النامّة عن إجلالٍ مألوفٍ فلا مجال للَّبس، فهو أبو عليّ ابن سينا. إن عمر لم يعرفه إذ كان قد وُلد بعد أحد عشر عاماً من موته، بيد أنّه يُجلّه بوصفه مُعَلِّمَ جيله غير مُنازَع، ومالكَ جميع العلوم، وداعية «العقل».

وتمتم الخيّام من جديد: «جابر، تلميذ أبي عليّ المفضّل!» ذلك أنه إذا كان يراه للمرّة الأولى فإنه ما كان ليجهل مصيره المفجع الباعث على الاتِّعاظ. فقد كان ابن سينا يرى فيه مُتَمِّماً لطِبِّه كما لآرائه في ما وراء الطبيعة، وكان مُعْجَباً بحُججه؛ غير أنه كان يأخذ عليه نشره أفكاره بكثير من الجهر والفظاظة. ولقد كلَّف هذا العيبُ جابراً عدّة إقامات في السجن وثلاثَ عملياتٍ جَلْدٍ أمام الملأ كان آخرها في ساحة سمرقند العامة، وكان عدد السياط التي انهالت عليه فيها بحضور جميع ذوي قرباه مئة وخمسين سوطاً. ولم يعُد قط سيرته الأولى بعد تلك الإهانة. فمتى جنح يا تُرى من الجسارة إلى الجنون؟ عند وفاة زوجه ولا ريب. فقد أصبح يُشاهد مذّاك هائماً في الأسمال وهو يَظْلَع ويزعق بتجديفاتٍ خرقاء، وفي أثره صبية متكالبون متضاحكون يصفّقون ويرشقونه بحجارة حادّة تجرحه وتُسيل دموعه.

لم يتمالك عمر وهو يرقب المشهد من التفكير: «إذا أنا لم أحاذر صِرتُ يوماً خِرقة كهذه». وما كان السُكْر هو الذي يخشاه إلى هذا الحدّ، فهو يعرف أنه لن ينغمس فيه، إذ تعلّم هو والخمر أن يحترم كلّ منهما الآخَر، ولن يُهرق أيّ منهما الآخَر أبداً على الأرض. وأخشى ما يخشاه هم عامّةُ الناس وهَدْمُهم جدار الوقار في ذات نفسه: وشعر أنه مهدَّد بمشهد هذا الرجل الخائر المُكْتَسَح، وودّ لو يُشيح ويبتعد. ولكنّه يعلم أنه لن يترك رفيقاً لابن سينا بين أيدي العامّة. وتقدّم ثلاث خطوات متمهِّلة وقورة، واصطنع أشدّ ترفُّعاً وقال بصوت واثق مشفوع بحركة سَنّية:

ـ أطلقوا سَراح هذا المنكود!

كان قائد العصابة عندئذٍ منحنياً فوق جابر، فاعتدل وتقدّم فانتصب بثقله أمام الدخيل. وكان يتخلّل لحيته نَدْبة بليغة من الأُذُن اليمنى حتى طرف الذقن، وكان هذا الجانب المحفور هو الذي صعّره لمخاطبه لافظاً ما يشبه الحُكْم:

ـ هذا الرجل سكّير كافر فيلسوف!

ولقد أطلق هذه الكلمة الأخيرة وكأنها لعنة.

ـ لا نريد أيّ فيلسوف في سمرقند!

وسرت في الحشد تمتمة بالموافقة. فلفظة «فيلسوف» تعني عند هؤلاء الناس كلَّ شخص يهتمّ عن كثب بعلوم الإغريق المنافية للدين، وبصورة أعمّ بكلّ ما ليس ديناً ولا أدباً. وكان عمر الخيّام قد أصبح على الرغم من صغر سنّه فيلسوفاً بارزاً، أي صَيْداً أسمنَ بكثير من جابر المسكين هذا.

ولم يكن ذو النَدْبة قد عرفه بالطبع لأنه أشاح عنه وانحنى مجدّداً على العجوز الذي كان قد خرس، فأمسك به من شعره وهزّ رأسه ثلاث مرات أو أربعاً متظاهراً بأنه يريد تحطيمه على أقرب جدار، ثم أفلته بغتة. وقد ظلّت الحركة، على فظاظتها، متحفِّظة وكأنّ الرجل كان ـ على الرغم من إظهار عزمه ـ يتردد في ارتكاب جريمة قتل. وقد اختار الخيّام هذه اللحظة للتدخّل من جديد.

ـ دَعْكَ من هذا العجوز، إنّه أرمل مريض مُخَبَّل، ألا ترى أنه يكاد يستطيع تحريك شفتيه؟

واستوى القائد قافزاً وتقدّم من الخيّام مسدِّداً إصبعه إلى لحيته وقال:

ـ أنت يا مَنْ يبدو أنَّك تعرفه جيّداً، تُرى مَنْ تكون؟ إنك لست من سمرقند! ولم يسبق لأحد أن رآك في هذه المدينة!

وأزاح عمر يد مخاطبه بتعالٍ، ولكن من غير خشونة، محافظةً منه على احترامه من دون أن يمنحه ذريعة للشجار. وتراجع الرجل خطوة، غير أنه ألحّ قائلاً:

ـ ما اسمك أيها الغريب؟

وتردّد الخيّام في الكشف عن نفسه، وأخذ يبحث عن خدعة، ورفع عينيه إلى السماء حيث كانت غيمة رقيقة قد حجبت الهلال. وكان صمت، وكانت تنهّدة. فلقد كان عليه أن ينسى نفسه في التأمّل، أن يسمّي النجوم واحداً واحداً، أن يبتعد، أن يكون في مأمن من الحشود!

لكنّ العصابة كانت قد أحاطت به، وكانت بعض الأيدي قد بدأت تلامسه، فتمالك نفسه وقال:

ـ أنا عمر بن إبراهيم من نيسابور. وأنت من تكون؟

إنه لسؤال شكليّ محض، وليس في نيّة الرجل أن يُعرِّف بنفسه. فهو في مدينته، وهو المُحقِّق. ولسوف يعرف عمر فيما بعد لقبه، فهو يُدعى «الطالبَ ذا النَدْبة». وسيجعل سمرقند ترتعد في المستقبل وفي يده هراوة وعلى لسانه استشهاد. وأما الآن فإن تأثيره لا يتعدّى هؤلاء الشبّان المحيطين به متيقّظين لأدنى كلمة منه ولأدنى حركة.

وأومضت عيناه بغتة. والتفت نحو شركائه. ثم بزهو نحو حشد الناس. وصاح:

ـ يا لَلّه! كيف أمكن ألّا أعرف عمر بن إبراهيم الخيّام من نيسابور؟ عمر، نجم خراسان ونابغة فارس والعراقيْن وأمير الفلاسفة!

واصطنع انحناءة طويلة، وحوّم بأصابعه حول عمامته، مستثيراً بلا ريب قهقهات المتسكّعين.

الصفحات