أنت هنا

قراءة كتاب سمرقند

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سمرقند

سمرقند

كتاب " سمرقند " ، تأليف أمين معلوف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
في أعماق المحيط الأطلسي كتاب. وقصّته هي التي سأرويها.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

ـ إني أحذر تفاني الأتقياء، لكنّي لم أقل يوماً إن الواحد الصمد اثنان.

ـ هل خطر ذلك على بالك يوماً؟

ـ أبداً، واللَّه شهيد عليّ.

ـ هذا يكفيني. وهو يكفي الخالق على ما أظنّ. لكنّه لا يكفي العامّة. إنهم يتربّصون بأقوالك وبكلّ حركاتك، كما يتربّصون بأقوالي وحركاتي، وبأقوال الأمراء وحركاتهم. لقد سُمِعْتَ تقول: «أَذْهَبُ أحياناً إلى المساجد حيث الظلّ مواتٍ للنوم».

ـ وحده الإنسان المسلم لخالقه يجد إلى النوم سبيلاً في مكان للعبادة.

وعلى الرغم من برطمة أبي طاهر المُرتابة فقد زادت حماسة عُمَر واستطرد:

ـ لست من أولئك الذين لا يعدو إيمانهم أن يكون خوفاً من يوم الحساب، ولا تعدو صلاتهم أن تكون سجوداً. طريقتي في الصلاة؟ أتأمّل وردة، أعدّ النجوم، أتدلّه بجمال الخليقة، بكمال نظامها وترتيبها، بالإنسان أجمل ما أبدع الخلّاق، بعقله المتعطّش إلى المعرفة، بقلبه المتعطّش إلى الحبّ، بحواسّه، كلّ حواسّه، متيقّظة كانت أو مُتْرَعَة.

ونهض القاضي وقد لاح التفكّر في عينيه فجلس بجانب الخيّام وألقى على كتفه يداً أبويّة. وتبادل الحرّاس نظرات مشدوهة.

ـ اسمع يا بنيّ، لقد أعطاك اللَّه تعالى أثمن من ما يمكن أن يحصل عليه آدميّ، الفطنة، وفنّ القول، والصحة، والجمال، والرغبة في العلم والتمتّع بالعيش، والإعجاب بالناس، وعلى ما أظنّ، تنهّدات النساء. وأرجو ألّا يكون قد حرمك الحكمة، حكمة الصمت التي لا يُمكن أن يُقدَّر ذلك كلُّه ولا أن يُحْفظ من غيرها.

ـ أينبغي أن أنتظر حتى أصبح عجوزاً لأعبّر عن أفكاري؟

ـ إنّ اليوم الذي تستطيع أن تعبّر فيه عن كلّ ما يجول بخاطرك سيكون فيه أبناء أبنائك قد وجدوا الوقت الكافي ليصبحوا عجائز. إننا في عمر الأسرار والخوف، وينبغي أن يكون لك وجهان، واحد تريه للناس وآخر لنفسك ولخالقك. وإذا أردت أن تحتفظ بعينيك وأُذُنيك ولسانك فانسَ أنّ لك عينين وأُذُنين ولساناً.

وسكت القاضي، وكان سكوته فظّاً. لم يكن من النوع الذي يستدعي كلام والآخر، وإنما من ذلك النوع الهادر الذي يملأ الفضاء. وانتظر عمر وعيناه إلى الأرض تاركاً للقاضي أن يفاضل بين الكلمات المتزاحمة على رأسه.

بيد أن أبا طاهر شهق شهقة عميقة وأصدر إلى رجاله أمراً جافياً فابتعدوا. وما إن أغلقوا الباب حتى توجّه إلى ركن من الديوان ورفع حاشية أحد البُسُط ثم غطاء صندوق خشبي مكسوّ بالدمقس واستخرج منه كتاباً قدّمه إلى عمر بحركة احتفالية. مُلَطَّفةٍ، والحقُّ يقال، بابتسامة واقية.

وذلك الكتاب هو الذي سأحمله ذات يوم، أنا بنجامين و. لوساج، بيديّ. ولقد كان عند اللمس متشابهاً على الدوام فيما أعتقد. جلد صفيق خشن، وتدعيمات بشكل ذيل الطاووس، وحوّاف أوراق غير منتظمة ومُفَتَّتة. ولكنْ عندما فتحه الخيّام في تلك الليلة الصيفية التي لا تُنسى ما كان ليتأمّل فيه غير مئتي وست وخمسين صفحة بيضاء ليس فيها بعدُ قصائد ولا رسوم ولا تعليقات على الحواشي ولا زخارف.

ولكن يُخفي أبو طاهر انفعاله فقد اتّخذ نبرة بائع متجوّل قائلاً:

ـ هذا كاغد صيني، أفضل ورق أنتجته معامل سمرقند على الإطلاق. لقد صنعه يهودي من حيّ «ماتُريد» بناء على طلبي تبعاً لوصفة قديمة قوامها الكامل شجر التوت الأبيض. جُسَّهُ، إن له لَنَسْغَ الحرير نفسه.

وتنحنح قبل أن يوضح:

ـ كان لي أخ أكبر مني بعشر سنوات، وكان في مثل سنّك عندما مات. ممزَّقاً إرْباً في مدينة بلخ لأنه نظم قصيدة لم تَرُق الملك في ذلك العهد. واتُّهم بالهرطقة، ولست أدري إذا كان ذلك صحيحاً، بيد أني أخذت على أخي أَنْ غامر بحياته من أجل قصيدة، قصيدة بائسة لا تكاد تكون أطول من رباعية.

وتحشرج صوته ثم ارتفع لاهثاً:

ـ احتفظ بهذا الكتاب. وفي كل مرّة يتشكّل فيها بيت من الشعر في خاطرك ويقارب شفتيك ساعياً إلى الخروج فاكبِتْه بلا تحفّظ واكتبه في هذه الأوراق التي ستبقى طَيَّ الكتمان، وفكِّر وأنت تكتب في أبي طاهر.

أكان القاضي يعلم أنه بهذا التصرف وتلك الأقوال، كان يهب الحياة لأكثر أسرار تاريخ الآداب استغلاقاً؟ وأنه كان يجب الانتظار ثمانية قرون قبل أن يكتشف العالم شعر عمر الخيّام الرفيع، وقبل أن تُبَجَّل الرباعيات على أنها أكثر الأعمال طرافة على مرّ الزمن، وقبل أن يُعْرَف أخيراً مصير مخطوطة سمرقند العجيب؟

الصفحات