كتاب " سمرقند " ، تأليف أمين معلوف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
في أعماق المحيط الأطلسي كتاب. وقصّته هي التي سأرويها.
أنت هنا
قراءة كتاب سمرقند
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

سمرقند
ـ كيف أمكن ألّا أعرف من نظم هذه «الرباعية» الناضجة بالتقوى والورع:
«كَسَرْتَ يا ربُّ إبريقَ المُدامَ كما
سَدَدْتَ لي بابَ عيشي حيثُما كانا»
«أنا شربتُ وتُبدي أنتَ عَرْبَدَةً
ليتَ الثَّرى بِفَمي، هلْ كُنْتَ نَشوانا؟»
كان الخيّام يصغي مستنكراً قلقِاً. إن مثل هذا الاستفزاز دعوة إلى القتل، وعلى الفور. ومن غير أن يُضيع لحظة واحدة أطلق جوابه بصوت مرتفع واضح كيلا ينخدع أحد من المتجمهرين:
ـ إني أسمع هذه الرباعية للمرّة الأولى من فمك أيها المجهول. ولكنْ إليك هذه الرباعية التي نظمتها حقّاً:
«لا شيء، إنهم لا يعلمون شيئاً، ولا يريدون أن يعلموا شيئاً،
«أترى هؤلاء الجهلة، إنهم يهيمنون على العالم،
«وإن لم تكن منهم دَعَوْك كافراً.
«أهملهم يا خيّام واتّبع سبيلك» (2).
لقد أخطأ عمر ولا ريب في أن يُرفق قوله «أترى» بحركة ازدراء باتجاه خصومه. فقد امتدّت أيدٍ وجرّته من الثوب الذي بدأ يتمزّق. إنه يترنّح. واصطدم ظهره برُكبةٍ، ثم بصفحة بلاطة. وإذ كان الرهط قد سحقه فإنه لم يحاول أن يتخبّط، واستسلم تاركاً ثوبه يُقطَّع وجسده يُنهش، وكان قد سبق له أن أسلم نفسه إلى الخَدَر الرخو الذي يصيب الضحيّة المرجومة، فهو لا يستشعر شيئاً ولا يسمع شيئاً، وقد انحبس داخل ذاته سوراً يناطح الغمام وأبواباً موصدة.
إنه يتأمّل وجوه الرجال المسلَّحين العشرة الذين جاءوا يُوقفون عملية التضحية وكأنه يتأمّل بعض المتطفِّلين. كانوا يرفعون فوق طواقي اللبد التي يعتمرونها الإشارة ذات اللون الأخضر الباهت الدّالة على «الأحداث»، ميليشيا سمرقند البلدية. وما إن رآهم المعتدون حتى ابتعدوا عن الخيّام، لكنّهم أخذوا يصيحون مستشهدين بالجمهور تبريراً لمسلكهم:
ـ كيميائي! كيميائي!
ولأَنْ يكون المرء فيلسوفاً فليس جريمة في نظر السلطات، وأمّا تعاطي الكيمياء فجزاؤه الموت.
ـ كيميائي! هذا الغريب كيميائي!
ولكنْ لم يكن في نيّة رئيس الدورية أن يجادل. وعليه فقد قرّر قائلاً:
ـ إذا كان هذا الرجل كيميائياً حقّاً فإنه يجدر بنا أن نقوده إلى قاضي القضاة أبي طاهر.
وبينما كان جابر الطويل الذي نسيه الجميع يزحف نحو أقرب حانة ويندسّ فيها مؤالياً على نفسه ألّا يعود قطّ إلى الخروج، تمكّن عمر من النهوض بلا مساعدة من أحد. ومشى مستقيماً في صمت؛ وكانت سحنته المترفِّعة تغطّي، وكأنها حجاب محتشم، ثيابه الممزّقة ووجهه الدامي. وأمامه كان رجال الميليشيا المزوَّدون بالمشاعل يفسحون الطريق. وخلفه مشى المعتدون عليه ثم موكب المتسكّعين.
لم يكن عمر يراهم، ولا كان يسمعهم. لقد كانت الشوارع بالنسبة إليه مُقْفِرة، وكانت الأرض بلا ضوضاء والسماء بلا غيوم، وكانت سمرقند لا تزال موضع الحلم، ذلك الموضع الذي كان قد اكتشفه قبل بضعة أيام.
وكان قد بلغه بعد ثلاثة أسابيع من السفر، وعزم، من غير أن يتمتّع بأدنى راحة، على أن يتّبع على وجه التقريب نصائح قُدامى الرحّالين. فلقد دَعَوا المسافر أن يصعد إلى شرفة القهندز، وهي القلعة القديمة، وأن يُجيل طَرْفه طويلاً فلا يرى إلا الماء والخضرة والمرابع الزاهرة وشجر السرو الذي شَذَّبَهُ أمهرُ البستانيين في صورة ثيران وأفيال وجمالٍ مُنيخة وفهود متواجهة تبدو وكأنها تستعدّ للوثوب. والحقّ أن عمر لم يرَ داخل حَرَم القلعة بالذات، من باب الدير غرباً حتى باب الصين، غيرَ بساتين ملتفَّة وسَواقٍ هادرة. ثم، هنا وهناك، تَطاوُلَ مئذنةٍ من القرميد، أو قبّةٍ منقوشة بالظلال، أو بياضِ جدار من جدرانِ مقصورةٍ. ومستحمَّةً عاريةً تُفْرِد شعرها للريح المُحْرِقة عند حافّةِ بِرْكةٍ تغمرها أشجار الصفصاف الباكي.
ألم يكن مشهد الجنّة هذا هو الذي أراد أن يثيره الرسّام المجهول عندما شرع بعد زمن طويل في تزويد مخطوط «الرباعيات» بالرسوم المعبِّرة؟ أَوَليس هذا هو أيضاً ما أسرَّه عمر في نفسه وهم يقودونه إلى حيّ أسفِزار حيث يقيم أبو طاهر قاضي قضاة سمرقند؟ ولم يكن يني يردّد في سرّه: «لن أُبغض هذه المدينة. حتى ولو لم تكن المستحمّة سوى سراب. حتى ولو اكتست الحقيقة وجه ذي النَدْبة. حتى ولو قُدِّر أن تكون هذه الليلة الرَّطْبة آخِرَ لياليَّ».

