كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب السيف والرصاص
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
السيف والرصاص
في قاعة المحكمة، رأيت والدي مشدوهاً، وكأني به حيران لا يدري ما الموقف الذي عليه أن يقفه إزائي.. هل يجرمني أم يبرؤني.. بعد أن هدّأت الأيام أعصابه.. كم كان مهتاجاً في تلك الصبيحة التعيسة الباكرة عندما أخرجني رجال الدرك من قصر حياة كالفأر في شدق هرّ، ووضعوا القيد الحديدي في يديّ!.. كان لحظتها يريد أن يلحقني خنقاً بأخويّ الفقيدين؛ عزوز وعلجية..
".. أتركوني له.. خلوا سبيلي.. دعوني أروي غليلي من هذه الحشرة، من هذا الفاجر، هذا الوغد، هذا الكلب الوالغ في الدم.. أفي مأتم أخـته يكون هذا؟..".
لكن أيدي رجال الدرك كانت أقوى منه، وهي تصده عني بقسوة.. وفي محاولة لإخماد ثورته المندلعة كانوا يطمئنونه بعبارات مواسية خاوية لا معنى لها في الحقيقة:
".. ستأخذ العدالة مجراها.. لا عليك يا حاج.. لا عليك..".
هل كان والدي يريد أن يقتص مني ويقتلني حقاً؟.. بل هل كان يريد أن يزج بي في السجن كل هذه السنوات؟.. هذا ما لا أظن.. بدليل أنه بعد فترة من الثورة الصاخبة عليّ، اتجه إلى القدر يحتج في قسوة وفظاظة ربما أخرجته في تلك اللحظات من الملة، وهو الرجل المشهود له بورعه وتقواه:
" اللعنة أيها القضاء الغاشم.. اللعنة لهذا المكتوب الذي لم يقع على غيري.. ثلاثة أبناء يا ربي يذهبون في طرفة عين؟!.. ماذا جنت يداي حتى أعاقب كل هذا العقاب الفادح الوخيم يا ربي!.. يا ألله يا ألله؟!..".
كانت مأساة حقيقية..
***
توقفت الحافلة، صاح القابض في لهجة معتادة رتيبة كما يفعل في كل محطة وموقف ".. الزيتون.. الزيتون.." اختفى اسم بال فيريار الكولونيالي أخيراً عن القرية.. استيقظت من غفوتي على صيحات القابض، إذ لم أكد أنم البارحة في ذلك الحمام الشعبي الذي يزكم الأنوف والصدور بأوضار الرطوبة والعفن، فضلاً عن وخزات الصراصير كلما انطفأ النور، ثم هزيم الشخير غير المحتمل الذي كان يصدر من أحد النزلاء كالمنشار.. كان عنبر الحبس أرحم من عنبر الحمام بدرجات..
المحطة نفسها، الوقت نفسه تقريباً أمام ثكنة الدرك الوطني سابقاً..
اليوم الجمعة 31 مارس1987 الساعة السادسة صباحاً..
كان ذلك منذ سبع سنوات ونيف، أي منذ ألفين وخمسمائة وستة وخمسين يوماً بالتحديد.. الفارق الوحيد أنني يومئذ نزلت بشعبة الزيتون مستطلعاً ومتفقداً وضيفاً مرغوباً في مقدمي ومحتفلاً بي.. أما اليوم فشعبة الزيتون سوف تستقبلني بنظرات ملؤها الاستغراب والاستهجان والاحتقار والاستخفاف، أو هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال على الأقل.. عودة الابن الضال؟.. لا بل خروج الابن الضال من السجن.. ألا ما أقساك أيتها الليالي تحت أسوار الوحدة والاعتزال عن الدنيا في السجن!.. ما أطولك وما أشد ما يكون الوقت فيك سرمدياً وعاتياً.. في السجن قد يتحول الجدار الأصم إلى صديق تبثه أشجانك وشكاويك..
بأي وجه يمكن أن أقابل والدتي؟.. إخوتي؟.. أهلي.. نوارة المطلقة؟.. وابنيّ اللذين لا بد أن يكونا قد نسياني؛ صخر وشهيرة.. هل أطمع في رؤيتهما؟.. ترى أتكون نوارة طليقتي تزوجت؟. طبعاً، إن حادثة الليلة المرعبة وما تم تصويره من مبالغات ومهاترات في علاقتي بحياة في تلك الليلة، لا بد أن يكون قد عمل في مخيلتها الجموح ألف صورة وصورة عن معاني الخيانة الزوجية. أُشربَ الناس على حب الخوض في أعراض الغير وفي الفضائح ما دامت لا تمسهم، ولا بد أن تكون علاقتي بحياة في تلك الليلة المتفردة المهولة من فضائح العصر التي سارت بها الركبان ولهجت بذكرها الألسن!.. من يفهم أو يتفهم أن حياة بالنسبة لي ليست مجرد امرأة، بل هي سر الطفولة والبراءة، وهي كينونة وجود غيبية وسرمدية غير قابلة للفهم والإفهام..
سالت خطاي الرخوة عبر الشارع بلا أية رغبة، وبالتحديد أنا نفسي لا أعرف مقصداً معيناً أقصده أو غاية أرجوها من هذا السير التائه.. فأنا أسير منحدراً مع هذا الشارع في ضيق ويأس. إن رائحة دخان الحافلة، وبالأحرى رائحة المازوت السامة تملأ فمي ومنخريّ وصدري.. ويكاد القيء يغلبني. إني أشعر بالغثيان في شدة..
لم ينزل معي من الحافلة المتهالكة غير عجوز شمطاء ملتحفة في ملاءة سوداء كالبومة، تجر بيد معروقة صبياً قبيح الهيئة، ما يفتأ يلحس بلسانه مخاطه السائل من أنفه المحمر.. شفتاه مزرقتان برداً وقرّاً، كان يطرد دموع أسى الصقيع والبؤس من عينيه بكمّ قميص ممزق حائل اللون، بينما تزعق فيه العجوز الجهنمية تستحثه المشي بلهجة برمة، تعبر عن بغض غير مكتوم، وكراهية بلا حدود ولا راد لها:
- أمش، مشى بوالدك البرص والطاعون!..