كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب السيف والرصاص
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
السيف والرصاص
يقولون المرحوم الحاج مبروك.. نعم علمت بوفاة والدي في السجن، لكن كلمة المرحوم أعادتني إلى حالة الصفر.. أحسست أن هذا أول نعي رسمي أتلقاه من المجتمع. كان الهامل أخي قد زارني في السجن رفقة أحد لداته، عبد الناصر السنغالي، ولد خالتي زينب بعد وفاة الوالد بنحو شهرين، وقد اندهشت من زيارته ألا يعلم بأن تهمتي هي الزنى بأخته؟.. كان يافعاً حين وقعت الواقعة، أيكون جاهلاً به؟.. وكانت تلك زيارته النادرة التي حظيت بها.. ومنه بالكاد استخلصت بعض المعلومات منها أن والدي قد باع بعض الأملاك ليؤدي الركن الخامس من أركان العقيدة، وقد توفي إثر عودته من الحج.. كانت الزيارة بتكليف من الأم لغرض تبليغي بالوفاة على الرغم من ضغينتها عليّ، ووجدها المفعم بالأسى الطاحن للوجود..
انحدرت مع انحدار الطريق في لامبالاة كاملة، وإن تنبهت على الرغم من أنفي للبنايات المصفوفة الجديدة على الجانبين.. لم يكن هاهنا قبل سبع سنوات سوى دور متناثرة، ولم تكن بهذه الصورة الجديدة من العلو ولا التراص والتزاحم. لقد اغتنى الناس إذن وتبرجزوا في هذه الفترة، وإلا كيف استطاعوا أن يجددوا بناياتهم بصفة جذرية تقريباً.. لكن الزقاق المفضي إلى حارتنا لايزال على حاله لم يمهد ولم يعبد، يلزمني إذن أن أخوض في أوحاله وبركه، ولسوف أتجنب ذلك ما أمكن نطاً وقفزاً، وبدوس بعض النباتات الطالعة على طرفي الزقاق حذاء الجدران الطوبية المتهالكة..
صادفت في مسيري أطفالاً كثيرين، لم أعرف منهم أحداً، وأنى لي ذلك، وقد كانت السنوات السبع قطيعة مع الحياة الدنيا.. كنت أسمع من بعضهم قهقهات مكتومة وهم يحملقون فيّ بخجل ومواربة.. لا بد أن يكونوا قد اندهشوا من لحيتي الكوسجية الفريدة التي ربما أرعبتهم لحظة، ثم سرعان ما تبين لهم أنها مثار للسخرية والعبث أكثر من أي شيء آخر.. وهممت أن أزجرهم عن أفعالهم، وألقي فيهم عظة، ثم تذكرت أني أحمل مشروع العته فتراجعت، ذلك أنهم كانوا منذ حين يعبثون بالعقون، خماس الأخضر الزواتنية الذي كان يمر عبر الدرب الضيق، كان يركب بجثمانه الضخم أتاناً قميئة فتكاد قدماه المتدليتان تلامسان الأرض مثل سانشو تابع دون كيشوت، ويقود وراءه حصاناً هزيلاً يذكر بفرس دون كيشوت ذاته، وقد ربط الرسن ببردعة الأتان فانقاد له الحصان باطمئنان وسلام، ولكنه حين اقترب من الصبيان، وقد شرعوا يمازحون العقون ويسخرون من تشنجاته الكتيمة بمحاكاتها، ثار الحصان واندفع بقائمتيه رامحاً في الفضاء، وانفلت برسنه وراح يركض بملء قوته فيما فر بعض الصبيان يخلون له الدرب في حال من هستيريا الفزع وصخب الضحك، بينما راح بعض من أولي رباطة الجأش يركضون أمامه أو يلاحقونه في ضحك وصراخ واستهتار بالحياة كما يفعل الإسبان في مهرجانات سباقات الثيران الدموية الشهيرة..
ولم يسع الخماس العقون بعد لأي، غير أن يترجل، وأن يفك مخلاة فارغة مما كان من أحمال الأتان، ويشهرها ملوحاً بها وراء الحصان، وإذ هو أبكم لا يخرج الصفير من حلقه، تفرقعت من فمه أصوات كتيمة مثل أصوات القرد، فراح الصبيان يقلدونه من جديد.. ويبدو أن الحصان يميز جيداً بين صوت ربه وأصوات الصبية المشاكسين، وتعرّف الصوت المألوف لديه في هذه الحالات، فهو صوت يقترن بتقديم الأعلاف وفق نظرية المنعكس الشرطي لبافلوف التي لا يعرف عنها الخماس الأصم بالتأكيد شيئاً، وعاد الحصان أخيراً يهرول نحو صاحبه وقد تخلى عن غضبه واندفاعه الأول، وتجاهل شغب الصبيان وهيجانهم.. وباقترابه شده العقون من رسنه وربطه من جديد بالبردعة، ومضى وهو يلهث بتلك الأصوات الكتيمة في وجه الصبيان يسبهم ويزري بهم ويشنع ولا ريب بسوء تربية أوليائهم لهم..
توقفت أمام بيتي العامر، المكترى أو المغتصب لا أدري، كان يصدر من صحنه صياح أطفال وقوقأة دجاج. كانت الأشجار التي تركتها صغيرة يغطيها السور قد تعالت وتجاوز بعضها علو سقف البيت.. ترى من يسكنه بعد رحيل الصغيرة ابنة خالتي منها أم هي لم ترحل بعد؟.. طرقت باب الدار الجواني، حيث ينبغي أن تكون الوالدة مع هامل.. انتظرت أن يأتي السؤال التقليدي ".. من هو؟.."، لكن هذه المرة ينفتح الباب من غير أن يلقى سؤال أبي الهول المعتاد.. كان هامل هو من فتح الباب، فاحتضنني في لامبالاة من دون أن يتفوه بكلمة..
كانت الأم في صحن البيت تعرض نفسها على أشعة الشمس الساطعة، وقد غسلت الأمطار الجارفة أركان الحوش فبدت بلاطاته البيضاء المنقطة بالسواد في غاية النقاء.. صبت عليّ نظرة كأنما تريد أن تلقي ذلك السؤال "من هو؟." لكنها أمسكت.. إذ لا بد أنها تعرفت عليّ، أو حزرت على الأقل من أكون، ما دامت مدة محكوميتي معلومة، وخروجي من السجن كان منتظراً.. لم تقدم عليّ بلهفة كما كان المنتظر من مواقف الأمهات المتسامحات مع أبنائهن.. ربما كانت مضطربة، ولم تدر ما هو الموقف الصحيح الذي ينبغي أن تتخذه من عودة ابنها الضال..
لقد سببت للعائلة فضيحة كارثية نكراء، ومن الصعب أن تغتفر تلك الفضيحة.. والفضيحة المدوية هي التي عجلت برحيل الوالد عن الدنيا، وهو الحاج مبروك المشهور بالورع والتقوى حتى قبل أن يحج. كانت نظراتها تعبر عن معاني الحقارة التي يجب أن تظهرها لي، ولو كانت في دخيلة نفسها لا تستطيع إلا أن تكون أماً.. ومهما تكن الموبقات التي يرتكبها الأبناء، فإن الأمهات يجدن في صدورهن دوماً فضلة من حنان، وفضلة من أعذار مجدية أو واهية لفلذات أكبادهن، أياً كانت أفعالهم المرتكبة المخزية.. وقد قرأت في وفادة هامل عليّ في الحبس مثل هذا المعنى، إذ لم يكن هامل في زيارته حر الإرادة، وإلا ما زارني، لقد كان يقتر عليّ تقتير الأشحاء في الرد عن أسئلتي.. كما لو كان يدفع عن كل حرف ألفاً.. وهو يمقتني فيما يبدو، كما لو كنت عدوه الأول والأخير في هذا العالم الفسيح، وأصبح يتشدق بالعبارات الدينية هو ورفيقه عبد الناصر السنغالي، كأنهما من طلاب الزوايا.. ويستعملان تلك العبارات في غير محلها، سألتهما عن خالي سعد فقال أحدهما:
- لقد استبيت ثانية إن شاء الله!..