كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب السيف والرصاص
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
السيف والرصاص
قال السوفي:
- ولماذا يا أبله لم يكتف ولم يقنع سيدنا داوود بتسع وتسعين، وطمع في نعجة أخيه؟.. ولم يصبر عليها حتى أخذها عنوة وبالقهر والسلطة؟..
- يا خبيث تقارن نفسك المنحطة، وأنت من قوم لوط، بالنبي سيدنا داوود عليه السلام؟.. ومن أدراك أن النعاج هن النساء؟..
- أنت أخبث.. ورائحة التيوس لاتزال تنبعث منك!.. لقد أصبتَ من طراد النعاج حتى أتخمت.. ما دفع سيدنا داوود إلى الاستيلاء على تلك النعجة هو تميزها وتفردها، وذلك ما دفعني أن أبحث عن سلعة غير متداولة في سوق النعاج..
وقهقه صف المحبوسين في انتظار الدور لملء أوعية الحساء وهم يلعنون فقهه المنحرف..".
وحتى لا تتخذ آيات الله هُزُؤاً في هذا المجتمع البائس المحروم، قلت مفسراً:
- "الحكمة في الآية هي وجوب الخضوع للحق وإقامة العدالة حتى على النفس، والنعاج المائة مجرد مثال.."
تحول الرذاذ بعد لحظات إلى وابل جارف.. مصحوب بقصف الرعد المباغت. لحسن حظي، كانت سقيفة الخضار تحمي جذعي كله من حبات المطر الغزير، لكن السيل في الطريق قد راح يتشكل فوق الإسفلت بسرعة.. ماذا لو يستمر هذا المطر الوابل؟. لمع البرق وانبهر حولي الكون كله، وزمجر الرعد، وتهاطل المطر وابلاً، لا يبقي ولا يذر، وأطبقت السماء على الأرض، وزحف السيل عبر الشارع متدافعاً يتلوى كالأفعوان.. إذ لم يكن الشارع مجهزاً بقنوات صرف مياه الأمطار..
واختفى المارة، إلا أن شبح العجوز الجارّة للصبي تراءى من بعيد.. ما أتعسها وما أشقى الصبي!.. لا بد أن يكونا قد استحما بهذا الحمام الشتوي المجاني البارد. العجوز لاتزال تردد شتيمتها الأبدية:
- أمش ِ، مشى بأبيك البرص والطاعون..
كانا يتخبطان فويق الرصيف الضيق بمحاذاة المحلات يحاولان الاحتماء بجدرانها وسقوفها الناتئة من المطر العاصف دون فائدة، إذ تنصب مياه السقوف مآزيب جارية على رأسيهما.. وصحت رغماً عني، وقد رق قلبي للصبي:
- يا خالة.. عليك بالاحتماء هنا تحت السقيفة حتى تتوقف العاصفة..
- ماذا يفيدنا الاحتماء يا هذا، وقد تبللنا واستحممنا وانتهى الأمر كما ترى..
قالت راجفة، وهي مع ذلك تهرع مسرعة الخطى نحو السقيفة مرغمة.. أرسلت تنهدات قاسية متتالية، بينما كانت أسنان الصبي تصطك منتظمة مع الوابل الهطل في سيمفونية مؤلمة، وكانت عيناه ممتلئتين دمعاً لا أدري إن كان دمع برد، أم دمع ألم، أم دمع قرٍّ وألم معاً..
تأملت وجهه، أحسست كما لو أن فيه أمارات أعرفها. يبدو أني أعرف هذا الصبي، أم هو مجرد وهم؟.. سألته: " هل تبللت ثيابك تماماً؟..".
مسح بظاهر كفه الدموع، وحرك رأسه ببطء إلى أسفل وإلى أعلى مرتين إشارة أن ملابسه مبتلة تماماً، وكأنما عجز عن الكلام فرد بالحركة..
سبع سنوات في السجن. ماذا لو يكون هذا الصبي هو صخر ابني؟.. لا، صخر سيكون أكبر؟.. وسرح بي الخيال بعيداً، ترى من تكون هذه العجوز إذن، إذا كان هذا الصبي هو صخر؟. الحماة الجديدة لنوارة؟. أتكون تزوجت ومن أفقر الفقراء؟.. إن من أضاع نسله وشرد أبناءه، قد يرى في وجه كل طفل نسله.. مستبعد ذلك.. وهممت أن أسأل الصبي عن اسمه أو أسأل العجوز.. لكني، على الرغم من الاحتمالات المختلفة كنت أرتجف خوفاً من الحقيقة الصاعقة.. وكتمت أنفاس السؤال؟ تحشرج في حنجرتي.. أن لا تعلم أحياناً بأشياء ألطف بك من أن تعلمها.. إن تُبدَ لكم تسؤكم..
سال السيل وارتفع منسوبه، على الرغم من أن المطر قد أخذ يتباطأ هطله ويتخفف شيئاً فشيئاً. وصاحت العجوز الشمطاء في الصبي التعيس تستعجله الذهاب مهتاجة من دون حياء من البشر أو خوف من الله:
- هيا يا ابن الماخور!..
وهممت أن أستبقيهما تحت السقيفة حتى يخف المطر تماماً، لكن أنى لي ذلك، وقد أخذت بيد الصبي المسكين في تعنت وإيلام ومضت.. كانت ركبتاها تتراميان تحت الثوب الثقيل المتقاطر من دون أن تعير ذلك بالاً، كما لو كانت على موعد، مع عزرائيل قابض الأرواح، أو كأن ملاك الموت يستحثها الخطى، وهي خائفة من أن تتأخر عن ذلك الموعد.. فيما الصبي كان ينجر وراءها منصاعاً كطاعة العبد وفي صمت القبور المريب..
بدت لي العجوز طالع شؤم، وهي تمضي في سواد ملاءتها المبتلة، وفي حرصها على شتم الصبي وتعذيب روحه، إنها غراب ناعب.. ولا أرى يومي يمر بخير وقد أحاطتني الأقدار بهذه الصور الكابية المقيتة.. واكفهرت الدنيا في وجهي، وعبست أكثر على الرغم من زوال طعم مازوت الحافلة من فمي.. وهزت أعطافي مشاعرُ انحطاط وتعفن، فلم أر ضرراً فادحاً من استئناف السير تحت رذاذ المطر وبقاياه المتساقطة في فوضى وعلى غير نسق.. تسرب الماء إلى داخل الحذاء وابتلت الجوارب.. شددت الحقيبة تحت إبطي حتى لا يتسلل البلل إلى داخلها، ورحت أساير السيل محاولاً تجنبه ما أمكن حين يستوي الرصيف مع قارعة الطريق في بعض التقاطعات الثانوية..
غيروا طلاء جامع أهل الكهف، كان أخضر اللون بارداً، وغدا بنياً أبيض باهتاً، وشيدوا له قبة إضافية ثانية.. كل هذا لمنافسة مسجد سلمان الفارسي، الجامع الجديد الذي يحسب على القوادرة، فلا بد للزواتنة أن تكون لهم منارتان كما للقوادرة.. وتغير مظهر دكان الشيخ عمر رأساً على عقب.. كان بابه الضيق الواطئ من خشب مثل عتبته، وكان يحمل لوحة صغيرة تشير إلى نشاطه " عطرية ودقيق".. أمّا ما ترى الآن أمامك فهو شيء آخر.. تدخلت نجارة الألمنيوم والزجاج والإنارة؛ فأخرجت للرائي واجهة زجاجية من جانبين، وباباً زجاجياً، وشبابيك رفيعة تحمي الزجاج ولوحة إشهارية ضوئية غمازة تستطيل فوق الواجهة تلوح بلونين بالتداول: "مهرجان فساتين حلب". طبعاً لن يكون صاحب المحل هو الحاج عمر، لا يمكن أن يخطر بباله حتى مجرد خاطر أن يتحول محله المتواضع إلى هذه البهرجة..