أنت هنا

قراءة كتاب السيف والرصاص

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السيف والرصاص

السيف والرصاص

كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

تأملني النادل وكأنما اندهش لهيئتي التي يبدو أنه لم يتفطن لها من قبل، وانصرف وقد علا وجهه ارتباك مشوب بالاستغراب والحذر من هذا المسافر.

وقال الشيخ حسن في غضب من غير مبالاة بأحد يرد على كلام خطير، وقد عمد بوقنوش أن يسرّه إليه بخبث وتماجن:

- أعوذ بالله أن أكون مثل الحاج سعد؟.. ذاك سفاح وفتكٌ، وليس نكاحاً شرعياً.. يحرم عليه وطؤها.. النساء كالتراب، لماذا عمد للزواج من امرأة هي شرعاً في رقبة رجل آخر وهو فقيه يعرف الأحكام، وهو بعد إمام يأتم به الناس؟..

لم يفد التفتيش الدقيق لجيوبي شيئاً، حافظة نقودي ضاعت مني، كيف ومتى؟.. ذلك هو اللغز. لقد دفعت تذكرة الحافلة، واستسلمت لغفوة في الحافلة، أتكون سقطت من يدي أم سرقت أثناء تلك الإغفاءة؟.. أم سقطت في الميضأة أم في المحراب؟.. سوف تكون لي مشكلة الدفع مع النادل، وفي هذا الصباح الباكر. اللهم استر!.. وعاودت ذهني تساؤلات كنت أطرحها على نفسي في الليالي الأخيرة وأنا في السجن.. كيف أقابل الأهل، وبأي وجه؟.. وهل يحق لي أن أطرق بابهم؟. أتكون نوارة قد تزوجت؟.. وما مصير ولديّ صخر وشهيرة؟.. ماذا لو كان ذلك الولد الذي رأيته مع العجوز هو صخر، وإن كان الأمر مستبعداً فصخر يكون أكبر عمراً، ثم إنه من المستحيل أن أنسى ملامحه مهما تطاول الزمن؟..

أسئلة لا ساحل لها ولا قرار.. وأثناء ذلك كانت الوفادات على المقهى تتوالى آحاداً ومثنى وثُلاث... حتى امتلأ عن آخره وغص بالرواد، دون أن أنتبه لذلك.. حتى الأرائك التي كانت حول مائدتي سحبت أريكة بعد أخرى من دون أي استئذان.. ولا عجب في ذلك، فالسكان هنا هم ريفيون وجبليون وبدو، فلا تنتظر منهم أيّ لباقة أو استئذان، حتى ولو رأيت على صدورهم ربطات عنق أنيقة تتدلى من يافطات قمصان بيضاء.. وهذا ليس قدحاً فيهم ولا سخرية، ولكن وصف لحال قائم لأغلب سكان شعبة الزيتون لا أكثر..

وهكذا انفردت وحدي إلى هذه المائدة بجوار هذا العمود الأخاذ. واندهشت ألا يكون أي أحد من كل هؤلاء الرواد ممن أعرف.. لا بد أني أسترعي الأنظار، لاسيما بهذا الاعتزال عن الخلق.. وبهذه الهيئة غير المألوفة؛ لحية خفيفة مرسلة، تخالطها بعض الشعرات البيضاء في غير أوان المشيب.. وشارب حليق تماماً. لقد كانت أمسية البارحة في الحمام مضجرة فقضيتها أسوي لحيتي وأعبث بها على هذه الصورة. حقاً إن هذه الطريقة في إرسال اللحية تعطي أكثر من انطباع، فهي توحي بغرابة الأطوار بصفة خاصة، لكنها لا توحي بتماسك الشخصية ولا بجلالها، ولعل ذلك النادل الهمجي في مقهى العين، لم يطردني بسبب عفونة جواربي، ولكن بسبب هذه اللحية الشيطانية المظهر.

لست أدري.. هذه اللحية بالذات وبشكلها الغريب وقد كانت مرسلة أكثر مما هي الآن، هي التي زادت من توقير نزلاء السجن لي، مع أنها لا توحي بأي وقار في رأيي.. إطلاق اللحية وحلق الشارب لا يوحي إلا بمكر اليهود، وغموض الجواسيس. قيل إن الرسول الكريم نهى عن حلق الشارب لأن ذلك مظهر يهودي، وقيل عمن يحلق شاربه إنما يعرّض بنفسه، ويمثل بصورته. ويكتسب الملتحي بلا شارب مظهراً إبليسياً. أجل، معنى الأبلسة هو التلبيس والالتباس؛ أي الغموض بحيث لا يفهمك الناس الذين هم من حولك فيظنونك فيلسوفاً وما أنت غير أبله. ويتصورونك لبيباً فطناً ولست إلا جمجمة خاوية..

وتسمرت عيناي على وجهي المتعدد في المرايا المقصوصة التي كانت تغلف العمود من كل جهاته..

وقفزت إلى ذهني فجأة فكرة إبليسية مذهلة.. لكي أريح نفسي من كل مسؤولية لم لا أتظاهر بالجنون؟... حقاً إن لحيتي ستعينني على إقناع الآخرين بفكرة جنوني؛ رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل.. عن المجنون حتى يعقل.. ذاك هو الحل.. الجنون هو الحل.. الجنون هو الحل.. الجنون هو الحل.. وجدتها؛ فلأوطن نفسي بصفة رسمية من هذه اللحظة بأنني مجنون.. لا، لا تبتسم.. بالجنون تنجو يا عزوز من الموقف كله.. تتخلص من الحيرة المميتة، تتحرر من ربقة الأغلال المتأتية من المساءلة المنتظرة التي تثقل فؤادك وتنوء بكاهلك حتى قبل أن تسأل.. التأمل في مرآة الذات طويلاً يؤدي في البداية إلى حب الذات والعشق الذاتي، ثم يؤدي إلى كره الذات ومقتها ثم يوصل في النهاية إلى ما يشبه الخبال العام الذي تمحي فيه الحدود بين العشق الوامق والمقت الغاسق، لا يتميز فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

لا بد إذن أن أغادر المقهى.. رشفت ثمالة فنجان القهوة.. لملمت الحقيبة من بين فخذي، وجررتها جراً على الرغم من أنها خفيفة، ملتمساً طريقي إلى الباب في لامبالاة البلهاء المحترفين.. وجاء النادل يهرول نحوي وهو يصيح صيحة جدي فصل عن أمه:

- أتنصرف هكذا يا أبا لحية من دون أن تدفع ثمن ما أكلت وما شربت؟..

عند الغضب تظهر نوازع ابن آدم الحقيقية، وتبدو خصائصه النفسية العميقة، وها هو النادل يخلع تلك الغلالة الرقيقة من اللطف المصطنع الذي قابلني به في البداية، وخاطبني بالسيد وبلغة الغين.. فمن السيد، غدوت وبلا مقدمات؛ أبا لحية.. وأظنه أخطأ التعبير، ولو كان نابهاً لخاطبني بعبارة؛ يا أبا حليق الشنبات، فذاك يغيظ أكثر، ولا سيما وأن الشنب في بلادنا رديف الرجولة، وجز الشنب وحلقه رديف الديوثة أو الخنوثة على الأقل..

اشرأبت أعناق مرتادي المقهى نحوي على صرخة النادل، واقتحمتني الأنظار تلتهمني التهاماً وتتفحصني، وقد امتلأت القاعة بصيحات تردد بين التساؤل والتعجب: "من هو هذا الأخرق؟.."، "أليس هو بوعزيز ابن المرحوم الحاج مبروك؟.."، "إنه السجين بوعزيز.. هو هو.."، " متى سرح؟..".

عقدت العزم على تنفيذ فكرة الجنون أو العته على الأقل، إذ الجنون يتطلب القيام بحركات حاذقة خارقة للعادة، قد لا تواتيني الموهبة في محاكاتها. لم أبال بأحد، بما في ذلك صيحات النادل.. ودار الباب آلياً نصف دورة، وجدت نفسي بعدها في مواجهة الشارع، وقد سطع نور الشمس، وجفت ناصية الطريق، ولم يبق من أثر للمطر الهاطل غير بعض الطين الرملي المحتمي بصفائح الرصيف المنهدة..

الصفحات