أنت هنا

قراءة كتاب سكينة إبنة الناطور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سكينة إبنة الناطور

سكينة إبنة الناطور

كتاب " سكينة إبنة الناطور " ، تأليف سلمى حداد ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

الفصل الأول

أفروديتا

نيسان 1975

آثرت الإلهة أفروديتا الحياة بقرب أدونيس ابن الملك القبرصي الذي فاق جماله جمال آلهة الأوليمب، فقضت معه أجمل أوقاتها ولازمته في رحلات صيده للأرانب والغزلان والوعول في جبال قبرص وغاباتها، وكانت تحذره من صيد الحيوانات الكاسرة خشية وقوع أي مكروه لفتاها الجميل الذي هامت به حباً. وذات مرة، وبينما كانت منشغلة عنه بأمور أخرى، تعقب خنزيراً ضخماً ظناً منه أنه سيحقق باصطياده فوزاً غير مسبوق يفخر به أمام أفروديتا ويستعرض باصطياده له عضلاته المفتولة. طريدة لا تقدر بثمن... ما كان يعلم ثمنها ولا بأية عملة سيدفعه. لاحق أدونيس وكلابه أثر الخنزير وتعالى عواء الكلاب إيذاناً باقترابها منه، وعندما أصبح على بعد متر منه خرج الخنزير من بين الشجيرات ليطرح أدونيس أرضاً وينقضّ عليه بنابَيْن هائلين تمكّنا من إحداث جرح قاتل في جسده قبل أن يتمكن أدونيس من غرس رمحه الذي كان قد رفعه في وجه الحيوان الهائج.

علمت أفروديتا بمصرع الحبيب فهرعت إلى جبال قبرص بحالة هستيرية والمرارة تمضغ بطانة فؤادها، وأخذت تركض بجنون على المنحدرات الشديدة والجروف العميقة فنالت من قدميها الرقيقتين أشواك الطبيعة وقِطعُ الحجارة المتناثرة وأغصان الشجر اليابسة فأدمتهما وبعثرت قطرات دمها في كل مكان مرّت فيه إلى أن وصلت إلى أدونيس. احتضنت أفروديتا جثته الهامدة بين ذراعيها وبللتها بدموعها المنهمرة وأخذت تندب الحبيب ندباً حامضاً قابضاً متأسفة على شبابه المهدور.

خلّدت أفروديتا دماءها ودماء محبوبها بطريقتها الخاصة. فقد أمرت أن تزهر وردة الأنيمون مكان كل قطرة من دمائه، وأن تزهر وردة حمراء قانية مكان كل قطرة من دمائها. وهكذا تحولت الدماء إلى أيكة زهور رقيقة في جبال قبرص الشامخة.

لم تتأقلم أفروديتا مع غياب أدونيس وهي الإلهة القوية القاسية الفؤاد التي حكمت على نرسيس بالموت حباً لرفضه هباتها، فكان أن عاقبته بأن جعلته يقع في غرام صورته عندما رآها تنعكس على وجه الماء، ويموت بعد أن عافت نفسه الطعام والشراب فتنبت حيث مال برأسه زهرة الموت.... النرجس. الإلهة الشقراء تذرف الدموع ليل نهار على أدونيس الذي رحل في غفلة منها فتصل أنّاتها الكسيرة إلى مسامع زيس الذي يرق قلبه لحالها فيأمر أخاه هاديس وزوجته بيرسيفونا بإعادة أدونيس إلى الحياة من مملكة الموت مرة في الفصل الثاني من كل سنة فتزهر الطبيعة، وتشرق الشمس، ويضجّ قلب أفروديتا بألوان الحب والحياة وإلى جانبها حبيبها أدونيس(1).

تركت سكينة الكتاب برفق وألقت به جانباً على طاولة متآكلة الأطراف ثُبتت سيقانها بقطع مطوية تم انتزاعها بعنف وعشوائية من كرتونة مياه بقين قديمة. ألقت برأسها إلى الوراء مستندة إلى جدار نافر مخرمش فَقَد لونه الأبيض في زحمة الحياة التي هاجمته بكل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، أعتاها -على الإطلاق- الفقر. ويتوسط الجدار نافذة صغيرة ذات إطار حديدي أسود اللون دُقّت على جوانبه الأربعة مسامير مهترئة لتثبيت قطعة شبك تعيسة للحماية من ناموس الليل. وبين مسمار ومسمار تستمتع قطعة الشبك بحريتها كاملة فتستقبل ما يحلو لها من ناموس الليل وذباب النهار وتدعوها إلى الداخل. كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وعلى سكينة أن تأوي إلى فراشها كي تتمكن من الاستيقاظ مبكراً لتلتحق بمدرستها جواهر المستقبل صف البكالوريا الشعبة الثانية أدبي. ولكنها وإن استيقظت متأخرة بعض الشيء فسوف تتمكن من تدبير أمورها واللحاق بالحصة الأولى في وقتها تماماً، فقد رحمها الله من شر المواصلات الصباحية لأنها –وبكل بساطة- ابنة أبي جاسم، ناطور المدرسة العتيد.

بدأت سكينة تفكر في ما قرأت. لقد اتفقت هي ومجموعة صغيرة من صديقاتها في الصف أن يقرأن كل أسبوع قصة ما ويتناقشن فيما بعد بأمرها. كانت هديل أول من طرح الفكرة مع سكينة. فهديل قارئة من الطراز الممتاز، شديدة الحساسية ومغرقة في الرومانسية تحب دائماً الاستماع إلى الآخر من باب تقدير المسافة بينها وبينه، ومن باب تثقيف الذات. ولطالما شعرت سكينة بأن هديل أكبر من سنها بكثير وأكثر وعياً ومنطقية من أترابها. فهي متوازنة في حكمها على الأشخاص والأشياء على السواء وتسعى دوماً إلى تطوير نفسها عن طريق القراءة في الوقت الذي تبعثر الأخريات الأيام والليالي غير عابئات بالاستفادة منها. وكان أن التحق بالمجموعة ليلى ومرام وماجدة. وقد تم الاتفاق أخيراً على التركيز مبدئياً على أساطير اليونانيين القدامى وعلى الروايات المتعلقة بآلهتهم، فقد قرأت هديل بعض الكتب في هذا المجال وأرادت أن تستزيد بعد أن شعرت بروعة ما قرأت. وكان أن قامت بتوزيع نسخ من قصة أفروديتا وأدونيس على البنات الأربع محتفظة لنفسها ولمكتبتها بالأصل.

فكرت سكينة في سحر ما قرأت، وساهم في صقل هذا السحر شهر نيسان وروائح الياسمين الدمشقي المتسللة بدهاء إلى صدور الساهرين خارج أسوار معظم الحدائق الرقيقة المحيطة بمدرسة جواهر المستقبل في حي المزة فيلات غربية. ما أجمل أن يكون الإنسان في حالة حب حقيقي، تنهدت سكينة. حب كحب أفروديتا وأدونيس، لمَ لا؟ لو كنت في حالة حب حقيقي لما مانعت أن أموت في سبيل حبيب يخلدني حتى ولو بزرع باقتيّ جرجير وفصَّة على قبري الصغير. ضحكت من الفكرة وتثاءبت في دلال قبل أن تدفع الكرسي الذي تجلس عليه بوركيها وتنهض. دخلت الغرفة لتنام استعداداً لاستقبال يوم جديد من أيام حياتها الملأى بكل شيء.

كان المكان يضج بشخير أبي جاسم. هدير أعادها بوحشية من عالم الخيال والياسمين وأفروديتا وأدونيس إلى أرض الواقع المؤلف من غرفة واحدة تحتضن، بالإضافة إلى أحلامها، أبا جاسم وأولاده السبعة وأمهم، أمّ مرزوق. جاسم من زوجة سابقة لم تلتقها أم مرزوق يوماً. فقد توفيت أثناء ولادتها جاسماً على يد داية حمقاء أحضرها أبو جاسم وأصر عليها رافضاً فكرة نقل الزوجة النازفة حتى الموت إلى مستوصف القرية حيث كانا يقطنان خوفاً من أن يقوم طبيب بالكشف عليها. ماتت أم جاسم وأغلقت للمرة الأخيرة عينيها المتوسلتين اللتين كانتا تقولان بصمت المذعور إنها تفضل أن يكشف عليها ألف طبيب على أن تترك وراءها رضيعاً.. جاسم الذي دفع بيُتمه ضريبة قرارات أبي جاسم الجائرة كان الخاسر الأول والأخير.

الصفحات