كتاب " ماذا فعل بأطفالك يا أبي " ، تأليف عزة آغا ملك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدنة الكتاب:
لقد تمت كتابة هذه الرواية بالتواطؤ
مع إيريك
أنت هنا
قراءة كتاب ماذا فعلت بأطفالك يا أبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ماذا فعلت بأطفالك يا أبي
6
لاحظت أمي رغبته في الاستفاضة، فقطعت حديثه الذي وجدته باعثاً على القلق. كانت أحداث الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل تُبث من كل قنوات التلفزيون ومن الراديو الذي بقي مفتوحاً:
ـ أية طريق ستسلك؟ قل لنا! يجب أن أعرف ذلك قبل أن نغامر...
ـ يصعب عليَّ بعض الشيء أن أشرح ذلك، يا سيدتي! إن الشوارع الصغيرة التي سأسلكها لا تحمل اسماً. لكنني أعرفها كلها، اطمئني. أجاب السائق ملمحاً أنه من العسير على امرأة أن تفهم الشؤون العسكرية وما هو من اختصاص الرجال.
إنها فكرة تقليدية للناس الأميين.
ـ أما أنا فأريد أن تشرح لي أي مسلك سنأخذ! هذا مهم...
ابتسم السائق بطيبة. لقد أعطته أمي الفرصة كي يُظهر تفوقه الذكري وكذلك خبرته كسائق محترف وماهر:
ـ ثقي بي، يا سيدتي! سنسلك معابر لا تخلو من المشقة، كما سنتخذ طرقاً غير معبدة لكننا سنصل إلى فرن الشباك عند أصدقائكم، بأمان وسلام... قولي إن شاء الله! لنسلم أمرنا إلى الله... و...
قاطعته أمي، من جديد، من دون أن تترك له متعة الاستفاضة بالحديث:
ـ يمكنك أن تأخذ هاتين الحقيبتين الصغيرتين. هيا! أترك لي الحقيبة الكبيرة...
ورفعت عن جبينها خصلة ذهبية أعادت تثبيتها بعصبية بمشبك شعر.
نفذ السائق الأوامر وقد أمسك حقيبتينا الصغيرتين اللتين كانتا تتأرجحان في قبضته الضخمة.
ورأينا ثمارنا المحرمة، المخبأة بين ملابسنا، تُحمل بسرعة نحو الخارج لتوضع بالقرب من صندوق سيارة المرسيدس العتيقة وقد فُتِح. تبادلنا نظرة تواطؤ مع جدتنا، بينما كانت نسمة عليلة تداعب الأشجار وتحرك الأوراق المخضوضرة. كان ينبعث عطر العسلة والخزامى وقد امتزج بنفحة هواء مالح أتت من البحر لتداعب منخريي. بعثت تلك الرائحة في نفسي كآبة جديدة أقرب إلى القلق.
عاد السائق إلى البهو. راح ينتظر أن تُغلقَ حقيبة أمي. وهو يتابع حديثه:
ـ هل تعرفين، يا سيدتي... أنك محظوظة، أنت التي تتمتعين بالجنسية الفرنسية. إن فرنسا تهتم جيداً بكم. أما نحن، اللبنانيين التعساء الذين لا نملك شيئاً، ولا حتى إمكانية الرحيل... فمن سيهتم بنا؟ لا أحد!
ـ سيكون لديكم الله... سيكون معكم! أجابته جدتي مشاكسة. اتكلوا عليه. كما اعتدتم أن تفعلوا! إنه هو الذي...
كانت جدتي عقلانية من دون أن تكون ملحدة، فهي من أنصار الحداثة من دون أن تتصرف باستهجان، وكانت غالباً ما تلقي بنكبات الإنسانية على الله الذي ينسى أحياناً أن ينقذ البؤساء من المصائب التي تقع على رؤوسهم. إلَّا أن أمها صححت الفكرة فوراً قائلة: "لا تجدفي، هيا! إن الله يعرف ما يفعل. فهو يُعطي دروساً وأمثولات. يختبر بها الإنسان!".
صححت ابنتها بدورها تلك الفكرة قائلة: "لكنه يغالي أحياناً...".
بمجمل القول لم يكن لجدتي ولجدة أمي وجهة النظر ذاتها لاسيما في المواضيع الميتافيزيقية.
بدا السائق غير راض عن ذاك الجواب المُجدف والمتهكم بعض الشيء، فجلس على طرف الأريكة وقد ارتسمت كزازة استياء تحت شاربه الكثيف، أجاب قائلاً:
ـ عندك حق، يا سيدتي. يبدو لي أن الله قد نسينا. لقد نسي لبنان. ها نحن نعيش ثلاثين يوماً من الرعب! لكن لماذا؟ هل تعرفون حصيلة القصف لهذا الشهر؟ أكثر من ألف ميت، وثلاثة آلاف جريح، وبضعة آلاف مشردين من بيوتهم ولم ينتهِ الأمر بعد! لاتزال هناك جثث يعثرون عليها تحت الأنقاض. يقصف الإسرائيليون كل الأمكنة، وفق هواهم وحسب اختيارهم من بُنى تحتية وغيرها. لهم أهداف محددة. خذوا... على سبيل المثال... المستودعات النفطية لشركة كهرباء "الجية" الواقعة في جنوب بيروت... لم يبقَ شيء إلَّا تيار مدّ وجزر أسود ضخم راح ينبسط على مائة كيلومتر من الشاطئ. وتَدَفُق النفط الذي لا يمكن السيطرة عليه قد وصل إلى شواطئ السباحة وإلى مرافئ الصيد...
كنا نصيخ السمع بملء آذاننا. كانت أمي، وجدتي، وجدة أمي يصغين بانتباه خاص. لم يُذع الراديو كل شيء، هذا ما أشارت إليه أمي. وبما أن السائق كان يُغْني حديثه بأحداث الأمس، بدت النسوة الثلاث متضايقات من وصف الوضع الرهيب. وللحظة صمتت النسوة وجلات. أما نحن فلقد زدنا التصاقاً بأمنا.
ـ يوجد، كل يوم، كومة من السمك الميت... أضاف ذو الشارب بينما كان صوت في أعماقي يحدثني بأنانية قائلاً: "يا رب، امنع رحيلنا! فإنني لا أرغب في ذلك...".