أنت هنا

قراءة كتاب جدار الأكاذيب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جدار الأكاذيب

جدار الأكاذيب

في رواية "جدار الأكاذيب"، للكذبة حجم ووزن و قوة تأثير، وللكذبة زمان ومكان وطعم ولون. بعد ما جرى لي، أصبحت أسمعها وأراها وأشمّها وألمسها وأحسّ بقوة ضغطها وسرعة مرورها، بل أصبحت أستقبلها كفكرة من الآخرين عبر التخاطر والحاسة السادسة..

تقييمك:
4.5
Average: 4.5 (2 votes)
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

أنفاق المدينة المختنقة

رغم أنه من المتاح الاطلاع على جغرافية العالم بسهولة عبر الانترنت والتلفاز، ومن السهولة التنقّل عبر البلاد بالطائرة، لكن يختلف الأمر بالنسبة إلى ساكن السجن القلق، فهو يعكف وقتاً طويلاً على دراسة تفاصيل الشقوق في جدران الزنزانة، والتجاعيد المرسومة على وجوه السجانين، والتنقّل بين الحفر المتناثرة في أرجاء ذاكرته وذاكرة رفقائه. هكذا أخبروني عن أبي في غير مناسبة من مناسبات سجنه، وهكذا جرّبت ذلك بنفسي أنا عام عندما سجنت مع رفقائي الفدائيين وكان عمري خمسة عشر عاماً، كتبت حينئذ عبارة على جدار السجن المتآكل، شكلت لوحة متناغمة مع الشقوق والحفر والمذكرات، وقد أزعجت عبارتي السجانين فعكفوا على طلاء جدران السجن جميعها، وهكذا ربما كانت عبارتي مفيدة على الأقل للتسبب بطلاء الجدران، كانت العبارة تقول: يبقى الجدول الذي لا يحاول تحطيم حدوده صغيراً..!
وعندما تعيش مجبراً في سجن كبير أو بقعة جغرافية محصورة كغزة، تهمّك التفاصيل القريبة في تربة الأرض ولحاء الشجر، تعرّج الأنفاق وقساوة الحجر، مثلما تشغلك أكوام الأحزان ومصائب البشر.
هي طقوس يومية مقدسة تلك التي يمزج الناس فيها أجسادهم وأرواحهم مع تراب الأرض حتى تتشكل بشرة الوطن عبر آلاف السنين، حين تمتزج أنفاسهم بأنفاس الشواطئ عبر الفصول، وتتداخل أصواتهم مع أصوات الطيور والرياح يستمر شيء اسمه فلسطين العربية.
وبالأخص أنا عام، بماذا أهتم بغير تفاصيل الأرض والحجر والشجر؟ ليس لي أب أهتم به! شعري أجعد ولا يحتاج إلى عناية كبيرة، ووجهي لا ضرورة للإهتمام به، ولن أخبركم عن لونه وتفاصيله، إنه ناظر دائماً إلى الجهة الأخرى، تماما مثل وجه حنظلة، هكذا وصفني لكم ناجي العلي، للخلف أم للأمام لست أدري، لكن للجهة الأخرى من الوطن، للجهة الأخرى من المنفى، للجهة الأخرى من الكذبة الكبرى، وجه يبحث في وطنه عن وطن، وفي منفاه عن منفى، وجه يبحث في زنزانته عن حضن أمه، وفي النعوش المارة كل يوم عن وجه أبيه. وفي طيات شقائق النعمان والطحالب النابتة بين أصابعه يبحث عن أخته. فكيف أهتم بأبي وقد استشهد وعمري عامان؟!، وهاجرت أمي منذ ذلك اليوم ولم أتعرّف إليها، وقد سمعت أنها ولدت لي شقيقة اسمها عزة، لم أحظ بسعادة الاهتمام بها، وأصبح لي أخوة آخرون من زوجها الثاني.
كلمة "اليتيم" بحد ذاتها من أقسى الكلمات على الطفل اليتيم، لا يحس بمعناها ولا بأبعاد قسوتها غير اليتيم القلق ذاته، وكم تمنيت ألّا يذكرها الناس أمامي، لماذا لا يكتفون بذكر اسمي عام، ويصرّون على إلصاق اليتم باسمي وبجسدي وبروحي، حتى أبدو كعام طفل غير مكتمل النمو على الدوام، كان يتزعزع بنيان جسدي الطفل، يختلج قلبي وتعتصرني العبرة بكل قسوة عندما يصفني أحدهم أمام الآخرين باليتيم، أو ابن الشهيد، أو ابن الشيخ الله يرحمه..، يمسح أحدهم على رأسي أمام الناس ليجمع بعض الحسنات المنثورة على شعري كما يظن، ولا يدري أنه يقتلع ريشة من روحي وينفخها بزوبعة الحرمان فتطير على غير هدى. كنت ألعب مع الأطفال في الساحات والحقول وحول السواقي، ولكن كيف أتجاهل اللحظة التي يذهب بها الأطفال مع آبائهم أو أمهاتهم وأذهب لوحدي بقية يومي هائما مع الطيور والفراشات والسحالي، لا يسمع زفراتي وأنين وحدتي غير الريح التي تخطفني بين أجنحتها حتى حلول الظلام، ولا يكفكف دموعي غير لحافي الذي يلفني ويلفني عندما آوي إلى فراشي ليحميني حتى لا يخطفني الموت. ليس لليتيم عوض سوى عناية الله، فهي الوحيدة التي تعينه على قهر يتمه وقلقه ووحدته وحسرته.
في كل ليلة يتيمة كنت أفترش القصيدة، وألتحف بالقصيدة، وألتهم القصيدة..
ما أقسى غربة اليتم
وأوجع الوحدة في الطفولة...
أكبر والأيام تبقى..
كالدمع يستعصي
في العين الملولة.
وتبقى العذابات بقلبي
كالصداقة
والأبوة
والأخوة
والقبيلة.

الصفحات