في رواية "جدار الأكاذيب"، للكذبة حجم ووزن و قوة تأثير، وللكذبة زمان ومكان وطعم ولون. بعد ما جرى لي، أصبحت أسمعها وأراها وأشمّها وألمسها وأحسّ بقوة ضغطها وسرعة مرورها، بل أصبحت أستقبلها كفكرة من الآخرين عبر التخاطر والحاسة السادسة..
أنت هنا
قراءة كتاب جدار الأكاذيب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
جدار الأكاذيب
فُتح الباب بهدوء، لم أتبين ملامح وجه أبي خالد، غير أني تلقيت جرعة كبيرة من الزخم الذي أفرغته يمناه القوية حين صافحت أيدينا في العتمة. أخذنا شربة من الماء ومصباحاً صغيراً من أبي خالد، أزيح الغطاء عن فتحة النفق، بشكل يشبه فض بكارة نفق دافئ تحت الأرض، واندسسنا بداخله واحداً تلو الآخر، أضاء نضال المصباح الصغير فظهرت الجدران الناعمة الرطبة تحت بكارة النفق، وجزء مظلم بعيد من بلعوم النفق يتعرج مبتعدا عن بيت أبي خالد، كأن النفق شريان يتعرج في جسد الأرض، ينقل الآن كريات الدم البيضاء من نوع الخلايا اللنفية المقاومة للجراثيم والأمراض، تلك الخلايا اللنفية تنشط عندما يتعرض جسم الأرض لتدنيس من قبل الأعداء من المرتزقة والطفيليات.
ـ بالتوفيق يا شباب، لا تنس يا نضال الأدوية والأشياء التي أوصيتك بها من مصر.
ـ أنت تأمر يا أبا خالد...
سبقنا جزء كبير من صوت نضال خلال تجويف النفق مثل دفقة من الدم تستكشف استعداد جدران النفق ومرونتها.
أعاد أبو خالد غطاء النفق إلى مكانه وثبته بمزلاج، ثم وضع فوقه كومة من الخشب ليخفي أي أثر من آثار المقاومين الباحثين عن الضوء. وأول شيء يتوجب عليه شرعا فعله إذا ما سئل عن مقاومين مرّوا من هنا أن يكذب ويقول لم يمرّ أحد.
ارتعشت حين احتوتنا الأرض في رحمها بكل استرخاء ولذة، هكذا الإنسان يبدأ كنطفة في نفق، ثم ينمو في رحم دافئة، وهل من مكان أكثر دفئا وأمانا من رحم الأرض؟ ثم تلد الأرض أبطالها، تقبـلـهم حين ولادتهم، وتحنو عليهم حتى يكبروا، لا تنسى الأرض أبناءها أبداً حتى لو تغرّبوا عنها، وحتى لو دفنوا خارج ترابها، فكثير من الأجساد الفلسطينية حمل عبق التراب الفلسطيني ودفن في أصقاع الأرض ليكون شواهد من سيرة فلسطين، من رائحتها الزكية، من زيتونها وزيتها، من برتقالها وأملاحها، لتشهد سهول العالم على مر العصور وإلى يوم الدين بما دفنت فيها من قصص المهجرين واللاجئين المظلومين.
بداية الإنسان من نفق إلى نفق إلى نفق، ونهايته في لحد بارد على شاكلة النفق، وربما تتحرر الأرواح عبر مسارب كالأنفاق بين الأرض والسماء.. النفق ممر حتمي للروح عندما يضيق المكان عليها في مرحلة من مراحلها.
ارتفاع النفق الذي أسير فيه مع الفتيين يكفي لمرور رجل متوسط القامة دون أن يحني رأسه، وعرضه متر واحد، يكفي مسير ربع ساعة لعبور النفق إلى الجانب المصري من الحدود.
مشى نضال في المقدمة حاملا المصباح، ومشيت أنا عام في الوسط، ثم صادق في الآخر، كنت أمرر يدي على تعرجات الجدار الذي يمشي للوراء، أتحسس طيات مثل تلك الموجودة في جدر القصبات الهوائية التي تنقل الأنفاس للرئتين، أو جدر المريء والأمعاء التي تنقل الماء والغذاء للجسم، فيها شعيرات دقيقة، كلما تمرّ يدي على بروز حجري أزدرد لعابي بصعوبة، وكأنني أنوب عن الأرض التي نمشي في بلعومها أو قصبتها الهوائية. وكأنني أتلمّس آثار المعاول التي شكّلت تجويف النفق، أحسّ بصلابة الزنود التي نقلت التراب والحجارة، تارة تربة حمراء رخوة كتلك التي في الأراضي الزراعية، وتارة تربة حوّاريّة بيضاء، وأحيانا نمرّ في طبقة من الصخر الكلسي الأبيض القاسي أو الصخر الصوّاني الصلد، أستمع إلى أنفاس المقاومين الجسورين، أمسح العرق عن جباههم والتعب عن أكتافهم، أستمع إلى حشرجات الذين قضوا وهم يحاولون استكشاف الضفة الأخرى من الحياة عبر الفتحة الثانية من النفق..
ـ هل أنت قلق يا عام؟ قال صادق.
ـ أبدا
ـ بم تفكر إذا؟
ـ لم أقابل أمي منذ كنت طفلا في الثانية من عمري، لكنني سأعرف جيداً وجهها وأحسّ بوهج أنفاسها من بعيد. ولا أتذكّر أبي أبدا، لكنني أحفظ عن ظهر قلب كل الدروب التي مشى عليها.. الحقيقة ياشباب وأنا أسمع وقع خطواتي على أرضية هذا النفق تذكرت تلك الحالة المتألقة من الأمومة كانوا يذكرونها عن أمي، كانت تأخذني يوميا إلى ساحة المسجد الكبير حتى أركض فيها، نعم كي أركض فيها فقط.. طفل في الثانية من العمر يركض كالملاك في ساحة المسجد.. ربما يكون مشهداً مفرحاً لكل من يشاهده، لكن بالنسبة إلى أمي كان شيئا آخر أكبر من ذلك.. قال لها أبي بعد أسبوع وقد ضاق ذرعاً لأنها تقضي ساعة كل يوم فقط لتشاهدني أركض في باحة المسجد: هو يركض طوال اليوم هنا فلماذا الذهاب إلى هناك.. كان جواب أمي أعمق من أن يفهمه أي إنسان.. قالت لأبي: آخذ عام إلى باحة المسجد لأنه يحبّ أن يركض فوق بلاطها، يفرح أكثر عندما يسمع صوت ارتطام قدميه الحافيتين بالبلاط الأبيض، ترنّ قدماه رنّة مميزة ذات صدى، أشعر بذلك الصدى يتوسع في نفسه وفي نفسي حتى يغمرنا معاً بالفرح، لكنه عندما يركض هنا فوق الحصيرة أو في باحة المنزل الترابية لا يسمع وقع قدميه.