أنت هنا

قراءة كتاب جوهر الإنسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جوهر الإنسان

جوهر الإنسان

يتناوَل هذا الكتاب أفكاراً كانت قد قُدِّمَت في بعض كتبي الأولى، ومحاولات لتعميقها وتطويرها. ففي "الهروب من الحريّة" ناقَشتُ مُشكلة الحرية بالإضافة إلى السادية والمازوخية والتدميرية.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

I. الإنسان... ذئب ٌ أم خروف؟

هناك العديد ممن يعتقدون أنّ البَشَر خراف، في حين يعتقد آخرون أنهم ذئاب. ويستطيع كلا الجانبين حَشد العديد من الحجج الجيّدة لإثبات آرائهم. إذ لا يحتاج أولئك الذين يقولون أن البشر خراف سوى للإشارة إلى أنّه يُمكن بسهولة التأثير على البشر ليقوموا بتنفيذ ما يُطلب منهم فعله، حتى لو كان ذلك مؤذياً لهم؛ وأنهم يتبعون قادتهم إلى الحروب التي لا تجلب لهم سوى الدمار؛ وأنهم مستعدون لتصديق أي نوع من الكلام السخيف إذا قُدِّم لهم بطاقةٍ كافية وكان مدعوماً بسلطةٍ ما (من التهديد الفَج الذي مارسه القساوسة والملوك إلى الأصوات الرقيقة للواعظين السريين والعلنيين). ويبدو أنّ معظم الناس يسهل التأثير عليهم، وكأنهم أطفال نصف مستيقظين، يرحّبون بتسليم قيادهم لأي شخص يتكلّم بصوتٍ عذبٍ أو مُهدِّد بما يكفي للسيطرة عليهم. وفي الواقع إنّ من يمتلك الإيمان الكافي لمقاومة تيار الجمهور هو الاستثناء وليس القاعدة، وهو استثناء غالباً ما يكون موضع الإعجاب بعد عدّة قرون، في حين يضحك معاصروه عليه.
وعلى هذا الافتراض ـ أنّ البشَر خراف ـ بنى المستبدون والمحققون العِظام أنظمتهم. كما أنّ هذا الاعتقاد بأن البشر خراف وبأنهم بحاجة لقادة يتخذون القرار عنهم، أعطى القادة غالباً الإيمان الراسخ بأنهم يؤدون واجباً أخلاقياً ـ حتى وإن كان مأساويّاً ـ إذا ما أعطوا البشر ما يريدونه: أي إذا كانوا قادةً يحملون عبء المسؤولية والحرية.
ولكن إذا كان معظم البشر خرافاً، فلماذا تختلف حياة البشر عن حياة الخراف إلى هذا الحد؟ لماذا تاريخهم مكتوب بالدّم؟ وهو تاريخ عنف متواصل استُخدِمت فيه القوّة دوماً لتحطيم إرادتهم. هل "طلعت باشا" وحده مَن أبادَ ملايين الأرمنيين؟ هل "هتلر" وحده من أباد ملايين اليهود؟ هل ستالين وحده من أباد ملايين الأعداء السياسيين؟ لم يكُن أولئك الرجال وحدهم، بل كان لديهم الآلاف ممن قاموا بالقتل والتعذيب لصالحهم، والذين لم يُرحِّبوا فقط بفعل ذلك، بل واستمتعوا به. ألا نرى عدم إنسانية الإنسان اتجاه إخوته في كل مكان: في الحرب الوحشية، في القتل والاغتصاب، في الاستغلال الوحشي للضعيف من قِبَل القوي، وفي حقيقة أن أنّات المُعذّبين وآهاتهم لم تعد تلقى إلا آذاناً صمّاء وقلوباً قاسية؟ لقد قادت كل هذه الحقائق مفكرين مثل "هوبز" إلى استنتاج أن "الإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان". وقادت الكثيرين منا اليوم إلى افتراض أن الإنسان شرير ٌ ومُدَمّر بطبيعته، وأنه قاتل لا يمكن حرمانه من متعته المفضَّلة إلا بتخويفه من قتلٍة آخرين أشد بأساً منه.
ومع ذلك، يتركنا كلا الطَرَفين حائرين. فنحنُ قد نعرف حقّاً وبشكل شخصي بعض القتلة والساديين الواضحين أو المحتملين عديمي الشفقة مثل ستالين أو هتلر، إلا أنّ هؤلاء مجرّد استثناءات وليسوا بقاعدة. فهل يجب أن نفترض ـ لمجرد ما سبق ـ أن الناس العاديين مثلي أنا وأنت ذئاب في ثياب خراف، وأنّ "طبيعتنا الحَقّة" ستظهر بوضوح حالما نتخلَّص من تلك الضوابط التي منعتنا حتى الآن من التصرُّف مثل الوحوش؟ يصعب علينا دحض هذا الافتراض، مع أنّه غير مقنعٍ تماماً. فهناك عدد هائل من الفُرَص لظهور السادية والوحشية في حياتنا اليومية، والتي يمكن للناس التورُّط فيها بدون الخوف من العقاب، ومع ذلك هناك العديد ممّن لا يفعلون ذلك. وفي الواقع، سيشعر كثيرون بالاشمئزاز عند مواجهتهم للوحشية والسادية في موقفٍ ما.
هل هناك، بالتالي، أي تفسير آخَر وأفضل للتناقض المُحَيِّر الذي نتعامل معه هنا؟ هل يجب أن نفترض أنّ الجواب الأبسط هو وجود أقليّة من الذئاب التي تعيش جنباً إلى جنب مع أكثريّةٍ من الخِراف؟ الذئاب تريد القتل، والخِراف تريد أن تتبع أحداً ما. ومن ثُمَّ تريد الذئاب قتل الخراف، والخِراف تستجيب لذلك، ليس لأنها تستمتع به، بل لأنها تريد الاتّباع. وحتى حينها سيتوَجّب على القتلة ابتكار القصص حول نُبلِ أسبابهم، وحول الدفاع ضد تهديدٍ ما للحرية، وحول الثأر للأطفال المذبوحين والنساء المغتَصَبات، والشرف المنتهَك، من أجل جعل أكثرية الخِراف تتصرف كذئاب. قد يبدو هذا الجواب مقبولاً في الظاهر، إلا أنّه مع ذلك يترك العديد من التساؤلات. أفلا يتضمّن ذلك وجود عِرقين بشريين: ذئاب وخراف؟ كيف يتم بسهولة إقناع الخراف بالتصرف كذئاب إذا لم يكن من طبيعتها أن تفعل ذلك، حتى ولو افتَرَضنا أنّ العنف يُقّدّم لهم كواجب مُقَدَّس؟ قد لا يُمكن الدفاع عن أطروحتنا هذه بشكلٍ قوي، كما قد يكون صحيحاً أنّ الذئاب تُقّدِّم النوعية الجوهرية للطبيعة البشريّة فقط بشكل أكثر صراحة مما تُظهره الأكثرية. أم إن البديل الآخر هو خاطئ بالكامل؟ قد يكون من الصحيح أنّ نتساءل: هل الإنسان ذئب وخروف في ذات الوقت، أم إنّه ليس بذئبٍ ولا خروف؟
تعتبر الإجابة على هذا السؤال شديدة الأهمية اليوم، في الوقت الذي تفكر فيه الدول باستخدام أشد الأسلحة تدميراً من أجل إبادة "أعدائها"، ولا يبدو أن شيئاً سيردعها، حتى وإن كان من المحتمل أن تُباد هذه الدول نفسها في ذاك الهولوكوست. فإذا كُنا نعتقد أنّ الطبيعة البشرية ميّالة للتدمير، وأنّ الحاجة لاستخدام القوّة والعنف متأصّلة فيها، فستغدو مقاومتنا لتلك الوحشية المتزايدة باضطراد أضعف فأضعف. إذ لماذا نقاوم الذئاب ونحنُ أنفسنا ذئاب، وإن كان بعضنا أكثر ذئبية من الآخرين؟

الصفحات