أنت هنا

قراءة كتاب جوهر الإنسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جوهر الإنسان

جوهر الإنسان

يتناوَل هذا الكتاب أفكاراً كانت قد قُدِّمَت في بعض كتبي الأولى، ومحاولات لتعميقها وتطويرها. ففي "الهروب من الحريّة" ناقَشتُ مُشكلة الحرية بالإضافة إلى السادية والمازوخية والتدميرية.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

أمّا ردّ الفعل الهام حقّاً في سياق العنف فلم يتم ذكره بعد. إذ قد يبدأ الشخص الذي يشعر بخيبةٍ وضلالٍ عميقين بكره الحياة. وإذا لم يكن هناك أي شيء أو أحد ليؤمن به، وإذا كان إيمان المرء بالخير والعدل قد غدا وهماً أحمق، وإذا كان الشيطان هو من يُسيّر الحياة وليس الله، عندئذٍ تصبح الحياة حقّاً مقيتةً كريهة. ويصبح المرء عاجزاً عن تحمّل ألم الخيبة. وسيرغب حينها بإثبات أن الحياة شريرة، وأن الإنسان شرير، وأنّ جوهره شرير.و حينها سينقلب المؤمن الخائب ومحب الحياة إلى كلبي ومدمّر. إن هذه التدميرية هي تدميرية اليأس. لقد أدّت خيبة الأمل في الحياة إلى كره الحياة.
وفي تجربتي السريرية كثيراً ما أواجه خبرات فقد الإيمان المتجذّرة هذه، وهي غالباً ما تُشكِّل الفكرة المتكررة الأكثر أهمّيّة في حياة الشخص. وهذا ينطبق أيضاً على الحياة الاجتماعيّة، حيث يثبت أنّ القادة الذين يثق المرء بهم هم أشرار أو غير كفوئين. وإذا لم يكن رد الفعل هو نحو مزيدٍ من الاستقلالية فسيكون غالباً نحو مزيدٍ من التدميرية والتشاؤمية.
وفي حين أنّ كل أشكال العنف هذه ما تزال تصبّ في خدمة الحياة سواء بشكلٍ واقعي أم سحريّ، أو على الأقل نتيجة لأذيّةٍ ما أو خيبةٍ ما في الحياة، فإنّ الشكل الآخر الذي سنناقشه هو "العنف التعويضيّ"، وهو شكلٌ أكثر مرضيّةً، وإن كان أقل كارثيّةً من النكروفيليا (حب الموت) الذي سنناقشه في الفصل الثالث.
أعني بـ "العنف التعويضيّ" العنف المستخدَم كبديل لِنشاطٍ مُنتجِ ظهر لدى شخصٍ عاجز.و لفهم مصطلح "العجز" كما استخدم هنا، يجب أن نُراجِع بعض الاعتبارات الأساسيّة. في حين أنّ الإنسان خاضع للقوى الطبيعية والاجتماعيّة التي تحكمه،و في نفس الوقت ليس فقط خاضعاً للظروف. فهو يتمتّع بالإرادة والقدرة والحرّيّة لتحويل العالَم وتغييره، ضمن حدودٍ مُعَيّنة. وما يهمّنا هنا ليس مجال الإرادة والحريّة6، بل حقيقة عدم قدرة الإنسان على احتمال السلبيّة المُطلَقة. فهو مُضطَرٌّ لترك بصمته في العالَم، ليُحَوِّل ويُغَيِّر، وليس فقط ليُحَوَّلويُغيَّر. لقد تمّ التعبير عن هذه الحاجات في الرسوم الكهفيّة القديمة، وفي كل الفنون وفي العمل، وفي الجنسيّة7(sexuality). إنّ كل هذه النشاطات هي نتيجة لقدرة الإنسان على توجيه إرادته نحوَ هدف، والمثابرة على جهوده حتّى تحقيق أهدافه. تُدعى قدرة الإنسان هذه على استخدام طاقاته بـ "الفعاليّة أو القُدرة potency". (تعتبر القدرة أو الفعالية الجنسيّة أحد أشكال القدرة فقط). فإذا كان الإنسان غير قادر على الفعل ـ لأسبابٍ عديدة: الضعف، القلق، أو عدم الكفاءة...إلخ ـ فإنّه سيُعاني. وهذه المعاناة الناتجة عن العجز مُتأصّلة في حقيقة أنّ التوازن البشري قد تمَّ الإخلال به، وأنّ الإنسان لا يستطيع قبول حالة العجز الكامل بدون أن يحاول استرداد قدرته على الفعل. ولكن: هل يستطيع، وكيف؟ إنّ أحد السُبُل هو أن يخضع للشخص أو الجماعة التي تتمتّع بالقوّة، ويحاول التماهي معهم. فبمشاركته الرمزيّة في حياة شخصٍ آخر، يتوهّم الإنسان أنّه يفعل ويؤثِّر،بينما هو ـ في الواقع ـ يخضع فقط، ويُصبح جزءاً من أولئك الذين يفعلون. أما السبيل الآخر فهو قدرته على التدمير، وهو السبيل الذي يهمّنا أكثر في هذا السياق.
أن يبعث المرء الحياة يعني أن يتجاوز وضعهُ كمخلوق رُميَ في العالم كما يُرمى نَردٌ من كأس. أمّا أن يُدمّرَ الحياة فيعني أيضاً أن يتجاوز المرء وَضعهُ ولكن في اتّجاه الهروب من معاناةِ سلبيّةٍ مُطلَقة لا يُمكن احتمالها. ولِبعث الحياة تحتاج لصفاتٍ معينة يفتقر الشخص العاجز إليها. أمّا لتدمير الحياة فلا يحتاج المرء إلا إلى صِفةٍ واحدة: استخدام القوّة. إذ يستطيع العاجز ـ في حال امتلاكه مُسَدّساً أو سكّيناً أو ذراعاً قويّاً ـ تجاوز الحياة عبرَ تدميرها في الآخَرين وفي نَفسه. وهو بهذا ينتقم منها لرفضها التواجد لديه. إنّ العنف التعويضي هو تماماً ذاك العنف الذي تكمن جذوره في العجز، والذي يسعى باستمرار لتعويضه. فالإنسان الذي لا يستطيع الخلق يقوم بالتدمير. وبقيامه بالخلق والتدمير يتجاوز دوره كمجرّد مخلوق. وقد عبّر كامو عن هذه الفكرة بإيجازٍ عندما قال على لسان "كاليغولا": "أنا أعيش، أنا أقتل، أنا أتمتع بالقوة المذهلة لقاتل،حيث لا تبدو قدرة الخالق ـ مقارنةً بها ـ سوى لعبةٍ طفولية". هذا هو عنف الكسيح العاجز، عنف مَن أنكرت الحياة عليهم أيّة قدرة على أي تعبير إيجابي عن طاقاتهم البشريّة. فهم بحاجة للتدمير تماماً بسبب كونهم بَشراً، باعتبار أنّ كونهم بشراً يعني تجاوز شيئيَّتهم.
ترتبط محاولة التحكّم المُطلَق والكامل بكائن حي آخَر ـ إنساناً كان أم حيواناً ـ بشكل وثيق بالعنف التعويضيّ. وهذا الميل هو جوهر الساديّة. ففي الساديّة ـ كما سبق وأشرت في كتابي "الهروب من الحريّة"8ـ ليست الرغبة بإيلام الآخرين هي الأساس. بل نلاحظ أن كل أشكال السادية المختلفة التي يمكن ملاحظتها تعود إلى دافعٍ جوهريٍ واحد هو: السيطرة التامّة على شخصٍ آخر، وجعله شيئاً عاجزاً أمام إرادتنا، أن نصبح إلهه، وأن نفعل به ما نريد. إن إذلال الشخص واستعباده، هما مجرّد وسيلتان لتحقيق هذه الغاية، والهدف الأكثر جذرية هو جعله يعاني، باعتبار أنه لا توجد قوّة تُفرَض على الفرد أعظم من إرغامه على الخضوع للمعاناة وهو مُجَردٌ من قدرته على الدفاع عن نفسه. إنّ متعة السيطرة المطلقة على شخصٍ آخر (أو مخلوق حي آخر) هي جوهر الدافع السادي تماماً. ويمكن التعبير عن ذلك بطريقةٍ أُخرى بقولنا إنّ هدف الساديّة هو تحويل إنسانٍ ما إلى شيء ما، أو تحويل شيء حي إلى غير حي، إذ بالتحكّم الكامل والمطلَق يفقد الكائن الحي صفة الحياة الجوهرية: الحُريّة.

الصفحات