هذا الكتاب: مثل هذه الإرهاصات وغيرها، دفعتني للغوص بعمق في التاريخ، علّي أجد لها إجابات، أو مؤشرات قد نعتبر منها.
أنت هنا
قراءة كتاب لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثاني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثاني
الفتح العثماني
مرج دابق
من نافل القول، إن الصراع العثماني– الصفوي قد أغرق الإسلام في لجة التذابح المذهبي، أكثر من ذي قبل! وقد اتخذ هذا الصراع المذهبي ذريعة من قبل العثمانيين للسيطرة على مركز القرار، بتصفية سلطة المماليك((1))، حيث يتراءى لبعض الباحثين، «أن السلطان سليم كان قبل حربه مع الصفويين قد طلب المساعدة في قتالهم من السلطان قانصوه الغوري (المملوكي)، ومع أنه كان بإمكان السلطنة المملوكية تقديم يد العون للعثمانيين، وكان بإمكان السلطان الغوري بصفته زعيماً للمسلمين السنّة، شنّ حملة ضد الحكام الصفويين، غير أنه فضّل اتخاذ موقف المراقب للأمور من بعيد، وترك العثمانيين السنيّين وحيدين في مواجهة الصفويين»((2)). ولكن الأمر يبدو على غير حقيقته، حين يقول المؤرخ إبن أياس المعاصر للسلطان سليم: «ولما اشتد الحرب بينه وبين الشاه (عباس الصفوي) سلطان إيران من قبل، عرض السلطان غوري وساطته لحسم الخلاف بينهما وعقد محالفة ثلاثية بين السلاطين الثلاثة (الغوري والصفوي وسليم الأول) لإعلاء شأن الإسلام والدفاع عن حوزته، فرفض سليم الأول وساطة الغوري وفكرته وطرد رسوله»((3))!
وفي المحصلة، فإن القوة الجديدة التي لا تحتمل شريكاً (من مذهب آخر) يقاسمها المغانم، فهي لا تحتمل منافساً على مصالحها، حتى ولو كان من نفس المذهب!
كانت الدولة المملوكية متعبة رغم قوتها، نتيجة للصراعات الداخلية والثورات، وتجاذب مراكز القيادة بين القاهرة من جهة، والكرك ودمشق من جهة ثانية، بالإضافة إلى سيطرة الروح الطبقية الاستعلائية عند المماليك على سكان البلاد الأصليين، ووقوع المظالم وانتفاء العدالة وتحكم عدد قليل من أمراء المماليك وأزلامهم بمقدرات الدولة وخيرات الأرض. فكان لا بد لهذه الدولة أن تهتز وتتداعى عند أول صدمة قوية من الخارج، خصوصاً بعدما ركب قادة المماليك الغرور بسبب انتصارهم على الفرنجة وإخراجهم من بلاد الشام. وجاءت هذه الصدمة على أيدي العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق عام 1516م، بالرغم مما ساد علاقات الدولتين قبل ذلك من تعاون ومودة. وكان سلطان المماليك قانصوه الغوري، حاشداً جيوشه في حلب مدعوماً بنواب سورية من دمشق وحلب وطرابلس وصفد وغزة، بالإضافة إلى الجيش الذي خرج به من مصر، وذلك تحسباً لهجوم عثماني على سورية. وقد استعمل السلطان العثماني الخدعة والمكر، فأرسل وفداً إلى الغوري يطلب الصلح كما يرغب السلطان المملوكي. وبذلك خمدت همة المماليك إلى الحرب، وأرسل الغوري أميراً يفاوض سليم الأول فقضى على الرسول وأمر بالهجوم، وكان النصر له. ومات قانصوه الغوري في ساحة المعركة قهراً على هزيمته، وقيل إن نائب حلب من قبل الغوري كانت له يد في نتيجة المعركة((4)).
يؤيد نظرية هذه المؤامرة ما كتبه المؤرخ فيليب حتي عن مساهمة فخر الدين المعني الأول فيها، حيث «أجرى مفاوضات سرية مع والي حلب خيرباي، والغزالي والي دمشق، وكلاهما من الذين خانوا المماليك»((5))، فوقف فخر الدين على الحياد منتظراً رجحان الكفة، وعندما مالت إلى العثمانيين، انضم إليهم وحارب معهم في الربع الساعة الأخير! بينما كان آل بحتر يقاتلون إلى جانب المماليك.
وقف فخر الدين الأول يخطب بين يدي سليم الأول بعد أن قبّل الأرض تحت قدميه، ودعا له بدوام المجد، وبلوغ القصد، إلى آخر «الديباجة» المعروفة في كتاب التاريخ الرسمي «المجيد»! وأخذ جزاءه على ذلك لقب سلطان البر، وأبقاه السلطان على إمارته، فيكون «اللبناني الشاطر» قد استبدل بحنكة معلمه مرة أخرى، ونقل البندقية ومعها نير العبودية من كتف إلى آخر!
وقد استفاد البطريرك الماروني سمعان الحدثي من «شطارة» فخر الدين، حيث «استثنى السلطان سليم الأول البطريرك الماروني شمعون الحدثي (1492-1524) من بين بطاركة سائر الطوائف، إذ لم يفرض عليه الفرمان السلطاني.. لأن الأمراء اللبنانيين غير التنوخيين قد ساندوا السلطان سليم في معركته الفاصلة في مرج دابق ضد المماليك، وقد كان من بين جنود أولئك الأمراء مقاتلون موارنة»((6)). ويبدو أن للأمر صلة فيما ستؤول إليه العلاقة بين المعنيين والغرب فيما بعد، حيث تشير الأخبار إلى أن البطريرك الحدثي قد «استقبل المبعوث البابوي الثاني إلى الموارنة، وهو الراهب الفرنسيسكاني سورينو، وذلك عام 1515م، ولم يكن لهذا الراهب نشاطات أو فاعليات عديدة سوى رسالة البابا ليون العاشر والتي يثني فيها على الموارنة واصفًا إياهم بالورود بين الأشواك»((7)).
وللتذكير بمن هم المعنيون، فقد أشرنا سابقاً إلى كونهم يرجعون إلى قبائل ربيعة التي نزحت من بلاد نجد وديار ربيعة إلى منطقة الفرات بالعراق، حيث عرفوا بالأيوبيين نسبة إلى جدهم أيوب الذي تنسبه بعض المصادر إلى أصول كردية، ليخلفه ابنه معن الذي قاتل الفرنجة في أنطاكية، وانهزم هناك ببقايا رجاله إلى حلب سنة 1108، فأمره طغتكين صاحب الشام أن يتقدم إلى جبال لبنان لمهمة التصدي لتهديد الفرنجة، فرحل إلى بعقلين في منطقة الشوف، واتحد مع أميرها بحتر التنوخي، وصار وأبناؤه ملتزمي ضرائب، وشاركوا في أحداث الجبل، وتوفي معن سنة 1149، ليرثه ابنه يونس، ثم تندر أخبار خلفائه إلى حين ظهور فخر الدين بن عثمان بن ملحم منتظراً نتيجة المعركة على حافة مرج دابق!