هذا الكتاب: مثل هذه الإرهاصات وغيرها، دفعتني للغوص بعمق في التاريخ، علّي أجد لها إجابات، أو مؤشرات قد نعتبر منها.
أنت هنا
قراءة كتاب لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثاني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثاني
فخر الدين الثاني
سنة 1590م تسلم فخر الدين الثاني إمارة الشوف من خاله سيف الدين التنوخي، ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فوجد الأمير الشاب نفسه وسط أمراء متعددين، يحكم كل منهم مقاطعته على هواه. ورأى أن أقوى هؤلاء الإقطاعيين هما يوسف سيفا في طرابلس، ومنصور بن فريخ في البقاع، وقد تحالفا لابتلاع مقاطعات الزعماء الذين يُجاورونهما. فما كان من فخر الدين إلا أن جمع شتات الحزب القيسي في حلف قوي يمكّنه أن يقف في وجه الزعيمين اليمنيين: ابن سيفا، وابن فريخ. ومن هؤلاء الحلفاء آل شهاب أمراء وادي التيم، وآل حرفوش أمراء بعلبك. وجذب إلى صفه بعض مشايخ العرب في حوران، وعجلون في شرقي الأردن. وكان فخر الدين يستعين، لبلوغ أهدافه السياسية بثلاث وسائل: القوة والمال والمصاهرة. لقد جهّز الفرسان والمشاة ووجّه الحملات لإخضاع خصومه، وبذل المال والهدايا لاستمالة الولاة العثمانيين، وصاهر آل شهاب، بل رأى يوماً أن من الخير له أن يُصاهر أسرة خصمه ابن سيفا((76)).
ومهما يكن من أمر، فثمة أسباب عدة دعت فخر الدين فور توليه مقاليد السلطة للنظر إلى أبعد من الإمكانيات المتاحة لديه ولأسرته منها: إقامة إمارة واسعة، امتدت ذات مرة من حلب إلى تخوم غزة؛ والاستقلال عن السلطنة العثمانية، بعدما لمس ترهلها؛ واعتماد علاقة مميزة مع المسيحيين خصوصاً الموارنة، لسببين: أحدهما حضنهما له في اختفائه، وثانيهما علاقتهم بالغرب، ومعاداتهم لآل سيفا ألد أعدائه.
وعلى مبدأ الشطارة، تلك العبقرية اللبنانية الخالصة في بناء الاستراتيجيات الكبرى! كان فخر الدين يستعين لتحقيق «أحلامه عن طريق الزواج حيناً، وعن طريق الدسائس والرشوة والتحالف حيناً آخر»((77))، لذلك يصفه المؤرخ الروسي لوتسكي بأنه «سياسي ماهر، بارع في حبك الدسائس، كما كانت له عيون في الآستانة وفي قصور الباشوات ودور الأتباع، وبذر الشقاق في صفوف أعدائه، ولإرضاء السلطان العثماني عنه، قام بدفع أموال ضخمة لخزينة الدولة، وتقاسم معه الغنائم الحربية... وإتباعاً لسياسته الحكيمة، فقد اتخذ من الأسرة الشهابية حكام وادي التيم حلفاء مخلصين له»((78)).
وقبل التطرق إلى كيفية تمكن فخر الدين من إقامة إمارة معنية مترامية الأطراف على شكل مؤقت، نجد لزاماً علينا بسط الخريطة السياسية اللبنانية والفلسطينية بما عليها من قوى محلية متصارعة وتكتّلات متحالفة. ففي منطقة بعلبك وسهل البقاع اللبناني، كان آل حرفوش الشيعة (1591-1865) يتمتعون بشبه استقلال سياسي في مقاطعاتهم. ولم يقتصر نفوذ الحرافشة على البقاع، بل كثيراً ما كانوا يتدخلون في شؤون المقاطعات المجاورة لهم؛
أما في جبل عامل فكانت بيوتات إقطاعية شيعية أيضاً كبني صعب في مقاطعة الشقيف، وبني منكر في مقاطعة الشومر، وبني علي الصغير في بلاد بشارة، حيث تمتعوا هم الآخرون بحكم ذاتي تحت قيادة شيوخهم..
وفي شمال لبنان كان آل سيفا ذوو الأصل الكردي يحكمون في طرابلس، وأشهر حكامها يوسف باشا سيفا الذي عينته الدولة العثمانية والياً على طرابلس عام 1579، واشتهر بعدائه الشديد لفخر الدين الثاني، فقد كان لعدائهما الشخصي مدلول حزبي، فآل سيفا كانوا من اليمنية، بينما آل معن من القيسية رغم أنهم كانوا في الأصل يمنيين((79)). وقد اتخذ آل سيفا من طرابلس مقراً لهم واتبعوا سياسة مناوئة للتجارة الأجنبية، ومع الوقت أضحى يوسف سيفا أقوى من الباشا التركي. «وفي سنة 1590 نصب رجال الأمير يوسف سيفا كميناً بين البترون والمسيلحة لمحمد عساف وقتلوه. وحسب العادة التي كانت متبعة في ذلك الحين، تزوج المنتصر الأمير يوسف زوجة القتيل واستولى على ممتلكاته وممتلكات جميع أفراد عائلته وخرب بيوتهم في غزير... وكذلك قضى بنو سيفا على مشايخ حبيش»((80)): «أبي يونس وأبي سعد منصور حبيش وقتلهما ونهب دارهما، وأقام بالنيابة عوضهما أبناء حمادة، فانتقلوا مع يوسف باشا من غزير إلى طرابلس، وأوجس يوسف باشا مِن آل حمادة فألقى الفتنة بينهم وبين المستراحيّة الذين كانوا بجبة المنيطرة، وكانوا مِن أنساب آل حمادة، فقتل قانصوه حمادة أناساً من المستراحيّة في طرابلس، ثم قَتل منهم بعضاً كانوا يسكنون بكفر صلدا، وصعد إلى المنيطرة بعسكر يُريد إهلاك أحدهم المُسمّى جمال الدين سيالة، فأصابته رصاصة فقتل وحملته جماعته إلى كفتين فدُفن فيها»((81)).
إنتقلت إذاً شؤون الموارنة في ظل آل سيفا «من آل حبيش الموارنة إلى آل حمادة الدروز الذين مارسوا القسوة تجاه مواطنيهم، ومما ساعد على ذلك أيضاً الحروب العثمانية المتواصلة وتدهور قيمة العملة العثمانية والضرائب الباهظة فضلاً عن التعصب الديني للسكان وقسوة عوامل الطبيعة، فأخذ الموارنة ينتشرون من مناطقهم التقليدية في شمال جبل لبنان إلى جنوبه أي نحو الشوف مقر حكم الأمراء المعنيين»((82)).
كانت الزعامات المحلية تسعى دائماً إلى «توسيع دائرة نفوذها على حساب السلطة العثمانية المحلية من دون أن تستقل عنها، وسارعت القوى الأوروبية إلى التقرب من هذه الزعامات لإضعاف العثمانيين، وكانت أبرز هذه الزعامات الأسرة المعنية الدرزية والأسرة الجانبلاطية الكردية»((83)). والتقت المصالح، فكانت رغبة الأتراك في الحد من قوة آل سيفا الذين صاروا أقوى من الوالي التركي ذاته، والإبقاء على جو النزاع في لبنان، فقد أخرجوا فخر الدين الثاني من مخبئه، في صفقة مع ملوك الغرب، وسلموه الحكم على كل الجبل الجنوبي عام 1591 ما خلا بيروت وكسروان.
كان الأمير منصور بن الفريخ حاكماً على البقاع ونابلس وصفد وعجلون وكان العثمانيون يتوجسون من ازدياد قوته، وكان فخر الدين يتوجس من منافسته. وفي ظل السلطان العثماني الضعيف أحمد الأول، «رأى فخر الدين أن يُزيح ابن الفريخ من طريقه أولاً، فاغتنم مرور مراد باشا القبوجي في صيدا، في طريقه إلى دمشق لتسلم منصبه والياً جديداً عليها، وتوجّه للترحيب به وقدم إليه الهدايا، فاطمأن الوالي للأمير المعني واستمع إلى رأيه في ابن فريخ وسوء سياسته. ولم يلبث مراد باشا أن استدرج منصور بن فريخ إلى دمشق وقبض عليه وقتله خنقاً سنة 1593، وعندما حاول ابنه أن يحل محله، أوعز مراد باشا إلى فخر الدين بأن يقضى عليه، ففعل. وبذلك انتقلت أراضي بني فريخ إلى بني حرفوش حلفاء فخر الدين.. كما أقطع مراد سنجق بيروت، وكان تابعاً لابن سيفا، وأعاد إليه سنجق صيدا الذي انتزع من المعنيين إثر حادثة جون عكار. وكانت أراضي السنجقين تمتد من نهر الكلب إلى عكا شاملة بلاد جبل عامل. ومنذ ذلك الوقت اتخذ فخر الدين صيدا مقراً له((84)) شتاء وصيفاً دير القمر. «وبسيطرته على بيروت وصيدا تحكم في منفذ جبل لبنان إلى الخارج»((85)).