أنت هنا

قراءة كتاب دفاعا عن الجنون - مقدمات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دفاعا عن الجنون - مقدمات

دفاعا عن الجنون - مقدمات

كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

طوبى

طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

احتفالاً بالجنون

قال سانشو لدون كيشوت وهو على فراش الموت:

«إن أكبر جنون يمكن أن يرتكبه الإنسان هو أن يدع نفسه يموت دون أن يقتله أحد ودون أن يجهز عليه شيء من الحزن».

* هذه مقدمة لكتاب عن الفنان لؤي كيالي، لصلاح الدين محمد يصدر قريباً عن دار ابن رشد.

نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين. وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكرورة.. ومملة.

نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون. صار علينا أن نكف عن اعتبار الجنون عيباً واعتبار المجنون عاهة اجتماعية.

في حياتنا شيء يجنن. وحين لا يجن أحد فهذا يعني أن أحاسيسنا متبلدة وأن فجائعنا لا تهزنا. فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة.. ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الاهانة.

نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقل والجبن واللامبالاة، فالجميع راضخون: ينفعلون بالمقاييس المتاحة.. ويفرحون بالمقاييس المتاحة.. يضحكون بالمقاييس المتاحة.. ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة.. ولذلك ينهزمون.. بالمقاييس كلها، ولا ينتصرون أبداً.

بغتة يجن شخص، يخرج عن هذا المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا وقبولنا وتثلم أحاسيسنا، يظهر لنا كم هو عالم مرفوض ومقيت وخانق.. وكم هو عالم لا معقول ولا مقبول. كم هو مفجع ومبك وكم نحن خائفون وخانعون وقابلون.

جنون كهذا شبيه بصرخة الطفل في أسطورة الملك العاري، أمر الملك العاري أن يروه مرتدياً ثيابه فرأوه. وأمر أن يبدوا آراءهم في ثيابه فامتدحوها وأطنبوا وحين خرج إلى جماهيره فاجأه صراخ طفل لم يدجن بعد: «لكنه عار.. عار تماماً».

لو كان هذا الطفل أكبر قليلاً لاتّهم بالجنون. ولكن لأن فيه تلك البراءة الواضحة العفوية الصارخة كانت صرخته فاضحة للملك وللحاشية وللمتملقين وللخائفين.

صرخة الطفل. مثل جنون الفنان، تفضح كم الناس منافقون ومراؤون وخائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يشير بأصبعه إليها ويعلن عنها. فهو يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش ودون تلوين بالمطامع ودون مكياج بالتبريرات. وفي أعماق كل فنان طفل صادق بهذا المقدار، طفل لا يحتمل ما تعودنا، على احتماله، طفل يبكي حين يتأمل ويصرخ حين يجوع ويغضب حين يهان ويجن حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان.

وأنا أريد أن أكتب عن لؤي كيالي لأنني أريد أن احتفل بالعثور على مجنون حقيقي، إنسان كانت لديه الجرأة على إعلان جنونه دون أن يهتم للآخرين الذين انشغلوا بالتغطية على هذا الجنون وكأنه قد كشف عوراتهم ومخازيهم، فاختيرت لحالته أوصاف لبقة مثل «أزمة عصبية» و «انهيار عصبي» و «تعب أعصاب».

ويزداد الضغط باتجاه استخدام مثل هذه التعابير اللبقة بعد موت لؤي بدعوى احترام الميت وحرمة الموتى. ولكن من المهين للحياة أن لا نرى الجمال إلا في الموتى، وأن لا نقدر الناس إلا بعد موتهم وأن لا نجرؤ على رؤية من يموتون مثلما كانوا في حياتهم فعلاً.

وأنه لمن المخزي أن نمنح الموتى قيمة أكبر مما كنا نمنحهم في حياتهم. وخاصة حين يكون الميت فناناً، فالفنان ليس ملكاً لحساسيات الأهل والأصدقاء بل هو ملكنا جميعاً وقيمة في حياتنا جميعاً. ومن حقنا أن لا نسمح أن يقوم شيء في حياتنا على وهم أو خطأ.

لؤي كان مجنونا ً طوال سبعة أعوام: من عام 1967 حتى عام 1973، يجب أن لا نخفي هذه الحقيقة من حياته، بل يجب أن نعلن عنها ونشير إليها باعتزاز. يجب أن نقول إن لؤي كيالي من بقايا المستحاثات البشرية التي ما يزال لديها أعصاب وحساسية وكرامة. وأن هذه الميزات هي التي جعلته غير قادر على التواؤم مع عالمنا اللامعقول فجن وأربكنا.

الصفحات