كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
لقد خلع لؤي عنه جمهوره وكان من حقه أن يتوجه بثقة وعناد إلى جمهوره الجديد على الرغم من الحوارات المضنية التي حاصرته متهمة بأنه يتراجع في الشكل والصياغة لصالح المضامين الجديدة التي طرحها.
وإلى جانب هذه الحوارات كانت تأتي حوارات أكثر ارهاقاً.. حوارات تحمل العنوان الفني لكنها في حقيقتها حوارات سياسية.
التوجه، الذي كان سائداً في ذلك الحين، نحو الالتزام، قدم في الحياة الثقافية جدانوفيين مازالوا وأشباههم حتى الآن يحاولون ممارسة طغيانهم ـ يطرحون أسئلة خانقة تطالب الفنان بأن يقدم في انتاجه تعويضاً عن كل ما يفتقده الناس في واقعهم ويعوضهم عن الجيش ووزارة الاقتصاد والتربية والصحة والتنظيم الثوري والتنظير الايديولوجي، إضافة إلى عبء الغباء الذي لا يعرف كيف يحاور الفن بل يعرف كيف يقوم باستجواب أمني قمعي في زنزانات نقدية.
وكان لؤي، الذي لم ينضج في اتجاهه الجديد بعد، يحاول، يائساً، ان يقدم الاجابات تلو الاجابات إلا أنها كانت اجابات مورطة، من الناحية النظرية، ومسيئة لجهده هو مثل قوله: أنني أرسم الفقراء في لوحات يشتريها الأغنياء وهكذا أدخل الفقراء إلى بيوت الأغنياء. أو قوله في شرح لوحته (ثم ماذا)؟!.. أن الرجل في وسط اللوحة يميل رأسه لأنه يحمل عقدة ذنب نابعة من ندامته على بيع أرضه.
هذه الإجابات كانت ورطات ساذجة لابد أن يقع فيها واحد مثل لؤي يواجه نقداً من نوع: هذا الطفل لا تحمل عيناه تباشير الثورة أو: (أن تصوير الشعب المناضل بهذه الصورة المفزعة المرعبة خروج عن واقع المناضل.. الواقع المتفائل في مادته وصورته. كان على الفنان أن يظهر هذه اللوحات المعبرة بشكل متفائل يتمشى مع ما نريده من التفاؤل ومستقبل الثائر العربي)..
ولقد واكبت هذه الحملة النقدية الغاشمة لؤي كيالي طوال حياته فيما بعد، وصنعت حوله جحيماً من الاتهامات والانتقادات والتساؤلات. وحتى في معرضه الأخير ـ قبل موته ـ واجه عاصفة مشابهة لخصها الدكتور سلمان قطايا على النحو التالي:
(أما الضجة فهي سوء تفاهم يقع فيه كثيرون من الفنانين.. لؤي يعجز عن التفوق فيها. ومن هنا انطلقت الشرارة: لؤي يؤكد أن لوحاته تدافع عن القضية، ولكن خلال المناقشة ظهر للقضية عنده مفهوم خاص جداً بل وباهت. وأصر المناقشون على البحث في لوحاته عن هذه القضية كما أصروا على عدم وجودها).
لنا أن نتصور هذا الإنسان ـ الذي اعترفنا بحقه أن يكون ضعيفاً ـ وهو يواجه هذا كله في أول معرض له في اتجاهه الجديد. وخاصة أنه كان يحس أنه (يناضل) فعلاً عبر لوحاته. وأنه كان قبل ذلك مقصراً، وأن الآخرين ربما سددوا له خطاه أو أن الآخرين متآمرون يقفون ضد الشعب.
ولم يكن من الممكن للؤي أن يتماسك أكثر من ذلك. لؤي اكتشف الشعب لكنه لم يكن مؤمناً به الإيمان الكافي. ولقد كان اكتشافه للشعب مرتبطاً باكتشافه للنظم السياسية وطروحاتها المتفائلة. وحين هزمت هذه الأنظمة هزم لؤي من الداخل وأحس بنفسه عارياً.
إن هزيمة حزيران لم تنته حتى الآن. وقدرتها على دفعنا إلى الجنون تتزايد كلما أمعن العرب الذي مرغتهم، في تناسيها وتغليفها بسلوفانات الانتصارات الكاذبة والثورات الوهمية.
من لم يعش أيام حزيران وما تلاها لا يستطيع أن يفهم لماذا نقول أنه من المبرر أن يجن بعض الناس أو إن من الواجب أن يجنوا.. وبالتالي لا يمكن أن يفهم ماذا حدث للؤي.
لم تكن الهزيمة مفجعة لأنها هزيمة جيوش وحكومات.. بل كانت مفجعة بدلالتها على حجم العجز في حياتنا والغبن اللاحق بنا.. ولم يكن ما يدفع إلى الجنون حجم الخسارة بل أسلوب المعالجة: القفز فوق الهزيمة ومنع التحدث عنها وإهمالها وتجاهلها.
لم يكن أحد يتصور أن من الممكن تحطيم ثلاثة جيوش (المصري والسوري والأردني) مع المساهمات العربية الشكلية ـ والإعلامية ـ الاخرى في ستة أيام، بل وفي ست ساعات بمعنى انهاء الفعالية العسكرية. وأن من الممكن أن نخسر أرضاً بحجم سيناء والضفة الغربية ومحافظة القنيطرة في زمن أقل من الزمن اللازم لانسحابنا منها أو لمرور العدو من أقصاها إلى أقصاها (وحتى دون حرب).
ومع ذلك، أو الأنكى من ذلك، كان المواطن العربي الذي هزم دون أن يحارب والذي خيضت الحرب باسمه وحمل أعباء الهزيمة، مقموعاً إلى درجة أن الحكومات كانت قادرة على منعه من الكلام عن هذه الهزيمة. إن ذكر القنيطرة أو الهزيمة أو القول: أنني متألم للهزيمة كان يعد بطولة استثنائية شبيهة برشق القصر الجمهوري بالحجارة.
كيف يمكن إخفاء هذا الفيل ـ الهزيمة ـ في هذا الكيس الرقيق؟.. بالمزيد من التجاهل والتجهيل والقمع، وبالمزيد من الكذب والأقنعة النظرية. كيف يمكن أن نمنع الدمعة؟ بإطلاق النار ـ أو التهمة ـ عليها .. كيف يمكن أن تسجن النهدة؟ بتهديدها بمدفع الدبابة، ذاتها التي لم تحارب العدو، رغم شهدائك وأرضك المسلوبة وكرامتك المداسة صدق أنك لم تهزم وصدق، أكثر من ذلك، إن الأمور على أحسن
ما يرام وأنك منتصر وأنك تستطيع أن تتحدث عن القدس (ولكن ليس عن القنيطرة) وأن عليك قبول الكلام ذاته والشعارات ذاتها والأشخاص أنفسهم كأن شيئاً لم يقع.. وكأن ما حدث لم يكن إلا زخة مطر من غيمة عابرة بللتك قليلاً.. وها أنت قد جففت هذا البلل.