كتاب "حرب السويس وشروق شمس الناصرية " ، تأليف نواف نصار ، والذي صدر عن دار مركز الكتاب الاكاديمي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب حرب السويس وشروق شمس الناصرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حرب السويس وشروق شمس الناصرية
حرب على كل أسباب الحضارة
ولا يترك الاستعمار وأعوانه أي سبب من أسباب الحضارة والتقدم للشعوب الا ويشن عليها كل أنواع الحرب والتخريب والإحباط ، وذلك لكي يقتل فيها أسباب القوة والتقدم والعمران ، لكي يكون استعمارها سهلاً ، وخضوعها مضموناً ، واستعبادها مصيراً لا نقاش فيه ولا جدل ، بل ولا بديل عنه سوى الفناء .
والمفكرون الذين عاشوا تلك الفترة المعتمة من تاريخ الأمة ، لديهم الكثير مما يقال فيكتب لأمة لا تحب القراءة ، بل وتعزف عنها ، ولا ترغب في صداقة من يمارسها ! .
ومن هؤلاء المفكرين الكاتب المصري المعاصر سلامة موسى ( 1880- 1958) الذي يقول في كتابه " تربية سلامة موسى " في فصل بعنوان :
" القاهرة فيما بين 1903- 1907 "
" ... وكان الإنجليز يحاربون شيئين في الأمة لا ثالث لهما ، وكانوا يكفلون بقاءنا في ظلام الجهل وذلة الفقر بهذين الشيئين ، وهما العلم والصناعة ، ونجحوا في ذلك نجاحاً عظيماً ، فلم يسمحوا طول إشرافهم على وزارة المعارف بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات في أية مدينة من مدارس القطر ، وكانوا يعلموننا أن بلادنا زراعية لا تلائمها الصناعة ، كأن القدر قد قضى علينا بالفقر الأبدي ، وكانوا يصرون على المحافظة على تقاليدنا ، فكانت المدرسة السنية الابتدائية في القاهرة ، وكانت ناظرتها إنجليزية تصر على اتخاذ البرقع للتلميذات وهن في العاشرة أو الثانية عشرة من العمر ، وكان معلم اللغة العربية يفصل من وزارة المعارف إذا نزع عمامته وقفطانه واتخذ البنطلون والجاكتة ، وتقدمت الآنسة نبوية موسى لامتحان الشهادة الثانوية في سنة 1907 من بيتها ، فرفض دنلوب المستشار الانجليزي لوزارة المعارف قبولها في الامتحان ، ولكنها استمرت على الكفاح ،وأحدثت ضجة في الجرائد ، وتقدمت في السنة التالية فقبلت ونجحت ، ولكن الإنجليز تنبهوا ، فلم تفز فتاة مصرية بالشهادة الثانوية منذ 1908 إلى 1929 حين تقدمت الفتيات اللاتي أنشأت لهن وزارة المعارف مدرسة ثانوية في 1935 ، أي بعد إعلان الاستقلال بسنتين .
وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين 1903 و1907 سلسلة من التعذيب ، فكان أحدنا يعاقب طوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالإجازة الأسبوعية ، وكان من العقوبات المألوفة أن يحضر أحدنا في منتصف الساعة السابعة صباحاً ، أي في الظلام مدة الشتاء ، ثم لا يترك المدرسة آخر النهار إلا بعد الحبس ساعة أو اكثر ، وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات أن المعلم الإنجليزي قد طلب من التلميذ أن يقعد فوقف
أو يقف فقعد ، وقد تكون هـذه محض التباس لا أكثر ، ثم يتأخر المسكين في الحضور الساعة السادسة والنصف ، فيزداد عقوبة ، والزيادة تتراكم ، وهذا إضافة الى عقوبات مهينة ، مثل حرمانه من الغداء إلا برغيف يأكله وهو واقف أمام زملائه .
وكان ناظر المدرسة يدعى شارمان ، وكان يتأنق في تعذيبنا ، وحدث أن الجمعية الخيرية الإسلامية أرسلت على نفقتها بعض تلاميذها من مدارسها الابتدائية ، وكانت تشتري لهم ملابسهم في شكة صفراء واحدة ، وكان هؤلاء المساكين يخجلون من هذه الملابس الرخيصة ، واشتروا غيرها من الملابس المألوفة ، حتى لا يتميزوا بفقرهم أمام زملائهم ، ولكن شارمان أصر أن يلبسوا ملابسهم التي تصمهم بالفقر ، فلبسوها ، وكانوا ينزوون منا في خجل .
ولست أشك أنه حين أعلنت الجرائد وفاة شارمان هذا غرقاً في أواخر الحرب الكبرى الأولى ، عم الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميذه ، وقد يستنكر القارىء هذه العاطفة منا ، ولكني أؤكد أن التلمذة في تلك السنين كانت عذاباً لا يطاق ، وكان للمعلمين الإنجليز لذة في تعذيبنا ، وكانت العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الإحساس البشري ، حتى لقد كنا أحياناً نجهل اسم أحد المدرسين طوال العام الدراسي .
وقضيت ثلاث سنوات في المدرسة الخديوية لا أكاد أعد أسبوعاً واحداً فيها هنئت به ، ولذلك تخلفت في الدراسة ، وكان من أسباب هذا التخلف أيضاً أني مرضت بعيني واحتجت الى إجراء عمليتين لا يزال أثرهما المشوه باقياَ " .
"وبفضل الحزب الوطني ، بل بفضل الشاب مصطفى كامل ، تزايدت الحركة الوطنية ، وأخذت موجاتها تعلو وتزيد ، ورأى كرومر عجزه عن مكافحتها ، فحمله الغيظ على العنف الأحمق ، بل على التوحش الإجرامي ، فانتهز حوالي 1907 فرصة التقاء الجنود ببعض الريفيين في دنشواي ، إحدى القرى في المنوفية ، وكانوا يصيدون الحمام الذي كان هؤلاء الفلاحون يربونه ، فاشتبك الريفيون مع الإنجليز في مشاجرة انتهت بقتل بعض الإنجليز ، أو بالأحرى بوفاتهم ، وعندئذ عينت محكمة مخصوصة كان رئيسها المرحوم بطرس غالي باشا ، ومن أعضائها المرحوم فتحي زغلول باشا ، وكان المحامي عن الإنجليز الهلباوي ، الذي صار بعد ذلك عضواً في حزب الأحرار الدستوريين ، وشرع في محاكمة الدنشوائيين ، وعم الأمة توتر نفسي ، وغلت العواطف ، وكتب "المقطم" بأن المشنقة أرسلت إلى دنشواي قبل أن تنتهي المحاكمة ، فخجلت الحكومة وكذبت الخبر ، ولكن المرجح أن المقطم كان صادقاً ، لأنه كان يتصل اتصالاً وثيقاً بالإنجليز في ذلك الوقت .
وصدر حكم المحكمة بجلد البعض وبشنق آخرين ، ونفذت الأحكام في القرية ذاتها ، ورأى الأطفال آباءهم يشنقون أو يجلدون ، ورأت الزوجات والأمهات والشقيقات والآباء أعزاءهم وهم يتدلون من الحبال أو يصرخون من الجلد .
وأذكر أني كنت في الإسكندرية ذلك الوقت أتنزه مع أخي ، وكنا نأكل في المطاعم ، فلما قرأت الحكم عمني جمود يشبه الغثيان ، فلم أستطع الأكل جملة أيام ، ودارت في نفسي خواطر جنائية عن هؤلاء المعتدين على بلادنا وأهلنا ، وخجل الإنجليز أنفسهم من هذا الحادث الإجرامي ، فعزلوا كرومر عن وكالته في مصر ، وكان يرأس الوزارة الإنجليزية في ذلك الوقت رجل من الحربيين يدعى هنري كامبل بانرمان ، ولكن وزير الخارجية المدعو جراي برر جريمة كرومر بأن وقف في البرلمان يقول : إن التعصب الإسلامي قد تفشى في إفريقيا الشمالية كلها ، بما في ذلك مصر ، وكتب المقطم مقالاً عنوانه " التعصب يمتد ويشتد " أي تعصب المصريين المسلمين الذين يجب أن يكبحوا بمشانق دنشواي ، وما زالت كلمات هذا المقال ترن في ذهني ، ولا تزال دنشواي عندي من الذكريات النفسية الأليمة "( 14 )
ويقول سلامة موسى في مقال آخر بعنوان :
"التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا" :
" ثم شرع الإنجليز في مهمتين سلبيتين : إحداهما منع التعليم ، فأقفلوا المدارس ، وثانيتهما منع الصناعة ، فلم يأذنوا بإقامة مصنع ، بل لقد أقمنا مصنعاً لنسيج القطن في بولاق حوالي1900، اشتغل وأنتج الأقمشة ، فتعقبوه بالمعاكسات حتى أقفلوه وعينوا مديره الإيرلندي في وظيفة حكومية ، ولا تزال أسسه قائمة ، وقد حصلت من كامل صدقي باشا على أحد الأسهم التأسيسية لهذا المصنع الذي عمل الإنجليز على إفلاسه .
ثم حددوا التعليم ، وصرحوا بأن المقصود منه إيجاد موظفين فقط للحكومة ، وكانت مدرسة الطب محدودة العدد ، حتى أن خريجيها في بعض السنين لم يكونوا يزيدون على ستة أو سبعة أطباء في العام كله ، وكان أطباء الجيش يجلبون من لبنان من خريجي الكلية الأميركية في بيروت ،وكانت حالنا مع ذلك أفضل من حال الهنود ، فإن هؤلاء كانوا محرومين من مدرسة للطب الى 1920 ، فلم يكونوا يتعالجون - وهم 400مليون - من أمراضهم إلا على أيدي الدجالين أو على أيدي الأطباء القليلين جداً الذين تعلموا في أميركا أو أوروبا ، فتعقل هذا أيها القارىء ، تعقل وتدبر في هذه القسوة ، وكيف كنا محرومين من الأطباء قبل 1919الا خمسة أو ستة تخرجهم مدرسة الطب كل سنة ، وكيف حرم الهنود حرماناً تاماً من مدرسة للطب إلى 1920 !
وإني أذكر فيما بين 1900 و 1915 أني لم أزر طبيباً مصرياً ، لا أنا ولا واحد من أعضاء عائلتي ، ولم أكن أسمع عن طبيب مصري إذ كان الأطباء الممارسين في القطر المصري أجانب من اليونانيين أو الإيطاليين أو الإنجليز والفرنسيين ، بل أكثر من هذا ، ففي عام 1927 كان ماهر باشا وزيراً للمعارف ، وسنحت له الفرصة بإحالة الجامعة الشعبية إلى جامعة حكومية ، وكانت هذه الفرصة هي غياب المندوب السامي البريطاني جورج لويد ، وجمع المختصين وصرح لهم " بأننا يجب أن نبادر وأن نؤسس الجامعة المصرية على أساس ثابت في غياب اللورد لويد ، لأنه إذا جاء قبل أن ننتهي من هذا العمل فإنه سيعارض ويمنعنا من إيجادها " ، وتلك كانت خطة الإنجليز لتبوير العقول المصرية ، وتم تأسيس الجامعة في غياب اللورد لويد ، ولما عاد إلى مصر ووجدها قائمة ، كان ينتفض غيظاً وجزعاً .
وكانت همة الإنجليز المشؤومة في منع التعليم تتجه إلى البنات كما تتجه إلى الغلمان ، فإنهم منعوا التعليم الثانوي للبنات ولم نستطع إيجاد مدرسة ثانوية إلا في عام 1925 ، وكانت وزارة المعارف ترسل البعثات إلى اوروبا وتشترط على أعضائها ألا يلتحقوا بأية جامعة ، وإذا فعلوا فصلوا من البعثة وحرموا من الإعانة المالية .
هذا من ناحية التعليم من حيث المنع ، أي من حيث تحديد الكم ، ولكن حملتهم المشؤومة كانت تتجه أيضاً نحو الكيف ، فكانوا مثلاً يصرون على أن تدخل البنت في المدرسة السنية الابتدائية ( أكرر كلمة ابتدائية ) إلا وهي مبرقعة ، كما كانوا يصرون على أن يكون معلم اللغة العربية معمماً ، غيرة على التقاليد ، حتى نبقى من دعاة الفعل الماضي نعيش في الأمس .
أما في ناحية الصناعة ، فقد عرّفوا المصنع في عام 1904 بأنه : " محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر " ، ولا يزال هذا التعريف قائماً إلى الآن ، وهو يكفي لإقفال أي مصنع في العالم ، ولذلك لم يجرؤ واحد على إنشاء مصنع إلى 1919 ، بل إني أنظر في جدول الصادرات والواردات عام 1913 فأجد أن الواردات إلى مصر كلها من السلع الإنتاجية ، أي الآلات ، لا يزيد ثمنها على 1800 جنيه ، أي أقل مما يحتاج إليه مصنع في سنة واحدة ."
" ومن الحروب الكثيرة التي شنها الانجليز على المصريين ، تعميم الأمراض الدودية بالري الوفير لزرع القطن ، " فإن أي إنسان مهما كان جاهلاً ، كان يستطيع أن يفهم في عام 1900مثلاً أنه إذا استشبعت التربة بالمياه الوفيرة فإنها ستملح وتقل خصوبتها ، كما ان الحشرات والديدان ستعيش فيها وتتكاثر ، ولا بد أن تفشو ديدان البلهرسيا والأنكلستوما والأنكاريس، وقد فشت هذه الديدان التي لم نكن نعرفها في عام 1900 إلا قليلاً جداً ، إذ لم يكن بين الفلاحين من يحملون هذه الديدان في أجسامهم ، تأكل لحومهم وتشرب دماءهم من عام 1890 الى 1900 سوى 2 او 3 في المئة ، فأصبحوا الآن بفضل جنون الساسة التجاريين من الإنجليز نحو 80 او 90 في المئة ، أصبحنا أمة مريضة تحاول الآن أن تشفي فلاحينا من هذه الديدان "(15 )
وسلامة موسى كاتب مسيحي علماني ، ولكن ذلك لا يدعه مفتوناً بالإنجليز أصحاب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، وذلك لسبب بسيط وهو أن الرجل قد عاش بنفسه هذه الأهوال التي يحدثنا عنها بكل صراحة وموضوعية وتجرد ، فها هي صورة الاستعمار كما هي بقلم " شاهد عيان" مثقف وواع لا تنقصه الشجاعة فيما يقوله ويدونه للأجيال القارئة ، فالإنجليز :
1- وضعوا التعليم أهم غاية وأغلى هدف لشن الحرب ضده والقضاء عليه ، وواضح أنهم مبدعون خلاقون فيما يبتكرونه من أساليب شيطانية لتنفيذ هذه الحرب المعلنة أو غير المعلنة على كل من تسول له نفسه أن يلتحق بمدرسة ، أو أن يصبح شيئاً مَا يوماً مَا !
2- يعلمون الناس – ويحاولون جاهدين إقناعهم – بأن بلادهم زراعية فقط، لذا حكم عليها أن تظل زراعية بفتوى منهم ، فهي لا تصلح لصناعة أو تجارة أو أي نوع من أنواع الابتكار أو الإبداع البشري ، لا لشيء إلا ليظل أهلها عبيداً للاستعمار وأذنابه وكل من يدور في فلكه .
3- لقد قرأنا عن "دنشواي" في الكتب المدرسية وكانت تدعى بحادثة دنشواي ، فيظن المرء أنها مجرد حادثة كإسمها ، ولكن الكاتب الملتزم يصف المشهد المأساوي وصفاً دقيقاً يصور به مدى حقد الاستعمار وقسوته وظلمه ، ومدى ساديته وتلذذه بتعذيب البشر .
4- محاربة البريطانيين للصناعة بمنع استيراد الآلات ، وإغلاق المصانع ، كي تبقى البلاد فقيرة ، ولتظل سوقاً للبضائع الإنجليزية .
5- ولكن الشيء الأغرب في كل ما سبق هذا الحرص الشدبد ،والمخطط والمدروس لخلق الأمراض وبذل الجهود لإفشائها بين كل الطبقات ،إمعاناً في الإساءة وتجسيداً للأحقاد الدفينة ، وإضعافاً للناس الذين لا تتوفر لديهم سبل العلاج للأمراض العادية ، فكيف بالأوبئة والديدان القاتلة .
****
ولنتأمل الدين الإسلامي الحنيف ، ودعاته الأماجد الذين نشروه في بقاع الدنيا بدون تعذيب أو سفك دماء ، أو نهب أو سلب أو هتك أعراض كما تعودنا أن نقرأ ونسمع عن الحملات الغربية المسعورة الغاشمة على ديار الإسـلام ، " ففي عام 1963 أثارت الصحف الأميركية حملة ضارية ضد الإرساليات التبشيرية الى القارة الإفريقية التي أنفقت مئات بل ألوف الملايين من الدولارات ، بدون أن تؤدي الغرض من وجودها ، والأمل المعقود عليها ، وعيرتها بأن الإسلام قد انتشر في تلك القارة انتشاراً عفوياً بدون بعثات وإرساليات ، فكان جواب المبشرين على تلك الحملة : إنهم إن يكونوا أخفقوا في دعوتهم ، فهم قد نجحوا نجاحاً ملحوظاً في تشويه الإسلام في نفوس أصحابه من العامة .. واعتذروا عن تقصيرهم فيما أرسلوا من أجله بأن الإفريقيين _ والوثنيين منهم خاصة – كانوا ينفرون بشدة من المبشرين لأن ما يدّعونه من سماحة المسيحية وتعاليم يسوع ، يخالف مخالفة دنسة التعذيب البشع ،والتقتيل الجماعي الذي يقاسونه من الاستعمار!"(16 )
أما موقف إسرائيل وزعمائها ، والصهيونية ودعاتها وكبارها ، فهو واضح جلي لا يخفيه هؤلاء ، ويصرحون به بمناسبة وبدون مناسبة ، فهم لا يخفون كرههم للشعوب الأخرى ، وحقدهم على الأديان غير اليهودية مهما كان مصدرها أو مكانها أوحملتها ودعاتها ، لنقرأ :
" فالأمم في نظر إسرائيل دواب وبصاق ، ولا تستحق حمل اسم الإنسان_ سفر عزرا الرابع ، الفصل الخامس – "وستتجمع الأمم عند ظهور المسيح في أورشليم لكي تلحس التراب عن أقدام إسرائيل – أشعيا – الفصل 49 العدد 23( 17 )
" وكلمة الأمم تثير قرف ( التلمود ) الذي يعلم اليهود أن ليس عليهم وفاء عهودهم نحو الشعوب الأخرى ، والمسيحي عندهم يمثل صنفاً من الأمميين ، مكروهاً بنوع خاص ، فالتلمود ينكر عليه الحق في أن يعامَل بالإنصاف والوفاء والإحسان ، بالإضافة إلى الإفتراءات السمجة التي وردت في النصوص والتي تنعت المسيح باللقيط ! وتقذف مريم العذراء بالفجور ، وهناك المؤلـََف الصفيق المسمى " نسب المسيح- تولدة يشوع" ، الذي جمع كل تلك الشناعات وألصقها بالمسيح وأمه " ( 18 )
ويقول بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل : إذا كان ينبغي من أجل خير أرض أجدادنا أن نغزو أمماً أجنبية ، ونستعبدها ونبيدها ، فيجب أن لا تمنعنا من ذلك اعتبارات إنسانية .
ويقول رئيس إسرائيل الأسبق مناحيم بيغن : نحن نحارب إذن نحن موجودون " ( 19 )
وعلى عكس ذلك كله . نرى الدين الإسلامي الحنيف فد ترك للكتابيين حقهم في البقاء على دينهم ، وممارسة طقوسهم ، فلم يكن هناك ما يسمى بالصراع الديني بين المسلمين وغيرهم ، لذا فإن المسلمين وحضارتهم ، وجيوشهم وفتوحاتهم ، قد احتضنت كل الأديان بدون سفك دماء أو اغتيال او تعذيب ، فسادت روح التسامح الديني كل الأقطار التي فتحها المسلمون ، لذا لا نستغرب أن يدخل مئات الملايين من الناس والأمم الأخرى هذا الدين الحنيف النموذج في التعامل والسلوك والتمدن ، واحترام معتقدات الشعوب الأخرى ، بل وأمن لهم الحماية والرعاية من أي معتد خارجي ، وتركت لهم حرية العمل والكسب والعيش ، وممارسة الحياة كأي مسلم داخل الدولة .
نظرية هوبسون في الاستعمار والرد عليها
المفكر الإنجليزي جون هوبسون(1858- 1940) المحاضر السابق في جامعة أكسفورد له رأي في أسباب الاستعمار يستحق التوقف عنده للتأمل !
" يرى هوبسون أن الإمبريالية وليدة النظام الرأسمالي وما ينتج عن تبلوره وتطوره من فائض في الناتج الصناعي دون أن يقابله استهلاك مماثل ، أي في الوقت الذي يزيد فيه الفائض الصناعي نتيجة زيادة الغنى في جانب الرأسماليين ، فإن الاستهلاك يقل نتيجة ضعف القوى الشرائية عند الغالبية من فئات المجتمع ، بما لا يمكنها استهلاك ثمار التصنيع ، فالمجتمعات الرأسمالية تواجه بورطة تتمثل في زيادة الإنتاج ونقص الاستهلاك في نفس الوقت ، وبالتالي فإن هذا الخلل في النظام الرأسمالي يؤدي إلى البحث عن أسواق في الخارج ( فيما وراء البحار) لتصريف المنتج والبحث عن فرص لاستثمار رؤوس الأموال "(20 )
وهذا كلام لا يخلو من معرفة بطموحات دول الغرب في تنمية أموالها ، وتطوير تجارتها ، بخلق أسواق لها في دول المشرق الفقيرة ! ، ولكن هذا الاستعمار الطيب القلب ، صاحب النوايا الحسنة التي لم نحسن تقديرها أو التعامل معها ، كان بإمكانه أن يفعل ما يلي :
1- تحسين صورته في البلاد التي استعمرها ، وذلك بسلوكه القويم ، وتمسكه بمبادئه وثقافته وحضارته التي يحدثنا عنها كتابه وفلاسفته ليل نهار ، فيكون نموذجاً يقتدى ، ومثلاً يحتذى لنا نحن الفقراء إلى كل ذلك ! .
2- نشر بضائع سليمة مفيدة للمستهلكين .
3- أن لا يكشر عن أنيابه المسمومة في احتلال البلاد وتخريبها ، وانتهاك أعراضها ، وتشريد رجالها وعلمائها .
4- أن يكون على ثقة تامة بمبادئه وتعاليمه وثقافته ، فينشرها بين الناس الذين سوف يتقبلونها عن رحابة صدر ، وليس بالعنف والقتل ، والسلب والنهب .
5- أن يؤدي الوظيفة التي جاء من أجلها ، وهي تسويق المنتجات الفائضة ، فيخلق أسواق دائمة لبضائعه التي لن ينافسه فيها أحد ، طالما انه مستقيم وأمين وثقة .
6- الدول المستعمَرة كانت ضعيفة فقيرة ، وإلا فما كانت لتكون سهلة على دول الغرب لاستعمارها ، لذا كيف يتوقع لها أن تكون سوقاً رائجة ، ويملك أهلوها العملات الصعبة لاستيعاب منتجات الغرب وطموحاته ؟ .
7- أثبتت حوادث التاريخ أن ما زعمه هوبسون عن غايات الاستعمار لم تثبت صحتها في شيء في كل الدول المستعمَرة ! ، ولم يرحب أحد بالاستعمار ولا بأهدافه النبيلة الشريفة ! وإلا فكيف يفسر لنا هذه الثورات العارمة التي قامت في كل الدول المستعمَرة ؟ ، أتراها قامت وقدمت الضحايا والشهداء لأن بضائع الغرب لم تعجبها ، ورفضت ان تكون سوقاً للمستعمرين ؟ .
إن من يقرأ ما ورد في الصفحات السابقة يشكك في كل كلمة قالها هوبسون ، أو يطلع على ما كان فعله الايطاليون في ليبيا ، والفرنسيون في الجزائر والمغرب سوف يرى أن ما قاله لا يتعدى كونه استبساط للعقول ، وسخرية من التفكير المستنير السليم ! .
وعلينا أن نقر بدون حرج أن الأتراك الذين حكموا بلادنا كانوا شكلاً من أشكال الاستعمار، وإذا كان مفهوم الاستعمار سيطرة حضارة راقية على حضارة متخلفة ، فقد كان الأتراك على عكس ذلك ، فلم يكن لديهم حضارة ولا رقي يقدمونه لهذه الأمة ، بل كانوا عالة على تراث العرب ابتداء من العمارة حتى شكل الكتابة ، ومن الصناعة حتى الثقافة .
وفضلاً عن قيامهم بنهب موارد البلاد وقواها المحلية من زراعية وصناعية ، ومكاسب تجارية ، إلى جانب الضرائب الكثيرة التي كانوا يفرضونها على الناس ، فقد هيأ الاتراك الوطن العربي ليكون لقمة سائغة للمستعمرين من الغرب ، " ومنذ الاستعمار التركي فقط بدأ الافتراق بين المستوى الحضاري والفني للغرب والعرب : الغرب إلى أعلى والعرب على الى اسفل ¸كان الاستعمار التركي نقطة الانعكاس في المنحنى الحضاري وخط التقسيم بين تقدم الغرب وتخلف العرب ، فبينما كان العالم العربي يتدهور بخطى حثيثة ، كانت النهضة الأوروبية بعثاً حقيقيا ومطرداَ لم يلبث أن طفر في قفزات ثلاث هي : الانقلاب التجاري ثم الميكانيكي وأخيراً الانقلاب الصناعي ، وقد تعاصر الانقلاب الأول مع أوائل الاستعمار التركي ، بينما تعاصر الانقلاب الأخير مع أواخره " ( 21 )
" لهذا فليس صحيحاً في هذا الصدد أن الاستعمار التركي هو الذي وقف حائلاً أمام الاستعمار الأوروبي وحمى منه الشرق العربي ، بل العكس هو الصحيح تماماً ! فبصرف النظر عن تخريب القوة الذاتية للعالم العـربي على يد الاستعمـار التركي ، بدأ التوغـل الأوروبي في المنطقة عن طريق " الرجل المريض" وبفضل عجزه ، وفي النهاية كانت هزيمة الاستعمار العثماني هي السبب المباشر فـي انقضاض الاستعمار الأوروبي على المنطقة "( 22 )