كتاب " المشوار " ، تأليف د. فخري لبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب المشوار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هز وكيل النيابة رأسه كمن يرثى لحالى. طلب منى الاستكتاب، فكتبت بطريقة لا تماثل خطى بأى حال من الأحوال، وبذا تصبح تلك الأداة دليل براءتى، لا إدانتى. طلب منى التوقيع فوقعت، وانصرفت.
أرسلوا بنا معاً إلى قسم الخليفة. تظاهرنا بأن أحداً منا لا يعرف الآخر. قسم الخليفة هذا يكاد يكون من أقذر أقسام البوليس. ما أن دخلت التخشيبة حتى صدمتنى رائحة عطنة عفنة. كانت كقبر جماعى، ما زالت أجساد من فيه تفرز أردأ ما فيها. رائحة النوشادر طافحة سابحة، تزكم الأنوف وتمسك بالصدور.
أخذنا بعضنا البعض بالأحضان. لم يعد هنالك داع للتخفى. انتحينا جانبا نحن الثلاثة. كان علينا أن نتدارس ما جرى، استعداداً لمجهول لا ندريه. لقد عثروا عند محمد على بعض الأوراق أيضًا. لكنهم لم يجدوا شيئًا عند صلاح. أسئلة النيابة لثلاثتنا كانت متماثلة، على وجه التقريب، وكذلك إجابتنا.
أخرجونا فى اليوم التالى لوجودنا قى التخشيبة من الجب النتن إلى سيارة. كاد هواء الشارع أن يصيبنى بالدوار. سارت بنا السيارة إلى مبنى هائل أشبه بصندوق خرافى تملؤه الثقوب. ولجنا بوابة ضخمة من باب صغير، وعلى البوابة شعار "السجن إصلاح وتهذيب" وكان السجن "سجن مصر" الشهير بـ "سجن قره ميدان".
أحسست وأنا أخطو إلى داخل السجن برهبة وخشية. هنا المكان الذى يعزل فيه الإنسان عن الحياة، لتتحول فيه أيامه إلى كابوس ثقيل لا تبدو له نهاية. إنها خطوة واحدة من الخارج إلى الداخل، لكنها تساوى عمرًا بأكمله.
كانت المفاجأة التى أذهلتنا أننا وجدنا زملاء لنا من المسجونين يتحركون بحرية فى غرف الشئون الإدارية للسجن. قدموا أنفسهم لنا. هجموا علينا بالتحيات والسلامات، رغم أننا نراهم لأول مرة. إنهم دون شك يقصدون أن يبثوا فى نفسونا الطمأنينة. أحسسن براحة عميقة. انتهت الإجراءات، وجاء السجان ليصطحبنا إلى العنبر.
غادرنا مبنى الإدارة مع السجان وأحد الزملاء. رأيت حوشاً واسعاً، على جانبيه بنايتان مستطيلتان ضخمتان. البناية التى إلى اليمين تطل من ثقوبها خلف القضبان إناث صغار وكبار، بل وهنالك أطفال أيضاً. نظرت إلى الزميل مندهشاً متسائلاً، فابتسم. كان على ما يبدو يتوقع ذلك، قال:
-دا عنبر النسا.
إزداد عجبى. تساءلت إن كانت النساء مسجونات معنا فى ذات العنبر.
تحولت ابتسامة الزميل إلى قهقهة.
-لا أبداً المبنى واحد، بس مقسوم عنبرين، عنبر "جيم" للسياسيين وعنبر "دال" للنساء. وصلنا عنبرنا. ذهلت وأنا أعبر بوابته الحديدية. كان مليئاً بالبالونات الملونة. والزملاء يرتدون ملابس نظيفة. كان أمامى عبد الله محمود كامل ومنصور زكى ومحمد درويش مصطفى فى انتظارنا. يبدو أن خبر وصولنا كان قد بلغهم. لم يكن عمر مكاوى معهم. كان قد غادر السجن. استقبلونا بالأحضان والأناشيد والهتافات. شاركهم زملاء آخرون، ربما من باب المجاملة، أو طبقاً لتقاليد الترحيب ومراسم الاستقبال. الفرق شاسع بين تخشيبة الخليفة وعنبر "جيم" المزدان بالأعلام والرايات الحمراء والمطرقة والمنجل وصور لينين وماو. بدا العنبر وكأننا فى بلد أحمر خلف جدران قاتمة.
اليوم أول يونيو، عيد الطفولة. ومنحنى الزملاء زنزانة انفرادية. كنت فى أشد الحاجة إلى الراحة، بعد هذه الرحلة الشاقة. قلت لمنصور:
-فيه موضوعات كثيرة عاوزين نتكلم فيها.
قال منصور:
-أنت دلوقت تستحمى وتستريح، والوقت هنا بالكوم، ما تقلقش.
غير أننى كنت قلقاً بالفعل، لا أدرى كيف ستتلقى أسرتى الخبر. كنت على يقين من أن أصحاب المنزل فى طنطا سوف يتصلون بها ويخبرونها بما حدث. ولا أدرى أيضاً ما حال وظيفتى، والأرجح أننى سأفصل كما فصل كل من سبقنى.
أحسست أن كل ما يربطنى بالخارج يتمزق. أخذت حمامى ودخلت زنزانتى. قرفصت فوق السرير وحيداً، أتأمل تلك الجدران التى تطبق على أنفاسى. هنا سأقضى أيام وسنوات، ربما البقية الباقية من عمرى. من يدرى. هنا من حكم عليه بخمس سنوات وعشر سنوات. من يضمن لى بقية من عمرى تكفى السجن والعودة إلى الشوارع والطرقات أسير فيها بلا قيد ولا حُراس.
كان المفروض أن أكون الآن فى الأسكندرية. ما أبعد الشقة بين كليوباترا حيث يقيم أخى إدوارد وبين قرة ميدان. انقطعت عادتنا السنوية، عندما كنا صغارًا، حيث كنا نقضى أسبوعاً أو أسبوعين، صيف كل عام فى منزل جدى، جدى لأبى أو جدى لأمى، أو كليهما معًا.
ووجدت نفسى تنساب، دون أن أملك وقفها، خارج قضبان تلك الطاقة التى تسدها قضبان متقاطعة.
انطلقت إلى سنورس، إلى منزل جدى لأمى، لأبدأ الرحلة من أولها.
* * * *