كتاب " المشوار " ، تأليف د. فخري لبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب المشوار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
انتقل جدى من سنورس إلى منفلوط. وأصبح والدى معاون محطة طما. كانت والدتى قد انجبت سمير ثم رأفت.
وتعرفت على المدرسة أول ما تعرفت فى طما، كانت مدرسة إلزامية، حيث كنا نحفظ القرآن، بالضرب المبرح إذا لزم الأمر. ليس هنالك ذرة تسامح أو تهاون مع خطأ فى القواعد أو التشكيل أو سقوط كلمة هنا أو حرف هناك. وكان الأمر كذلك فى الحساب عامة وجدول الضرب خاصة.
كانت طما تتوسط منفلوط، التى تقع شمالها، حيث يعمل جدى لأمى، ينى السندى، وسوهاج التى تقع جنوبها، حيث يقطن جدى لأبى، المقدس حنا إبراهيم. وكان ذلك الموقع يوفر لنا فرصة ذهبية لقضاء الإجازة الصيفية عند الجدين.
ذهبنا هذا الصيف إلى منفلوط. كنت فى السابعة من عمرى، صبياً شقياً. شكلنا فريقين، فريق فيه إدوارد شقيقى الأكبر، والفريق الآخر كنت أنا فيه ومنير خالى الأصغر. وباقى أعضاء الفريقين من أبناء المنطقة التى يقع فيها منزل جدى. لم يكن منزلاً حكومياً كما كان الحال فى سنورس، كان منزلاً فى أحد أحياء المدينة، منزلاً كبيراً "من بابه"، لا يسكنه غير جدى وأسرته. كان هنالك دور أرضى لا يستخدم، والدور الثانى تعيش فيه الأسرة، وسطح المنزل حيث حجرة الفرن والخبيز، والباقى مساحة فارغة يحيط بها سور منخفض.
تسلح الفريقان بأيدى المقشات وقطع الأخشاب. واعد كل فرد من الأفراد لنفسه غطاء رأس من ورق الجرائد. وأخذ كل فريق يسير فى خطى عسكرية يتحدى الفريق الآخر. كان أحد الفرق يسمى نفسه الفريق الأزرق ويسمى الآخر نفسه الفريق الأخضر (أشبه بفرق الوفد ومصر الفتاة)، ومرة أخرى يسمى أحدهما نفسه الفريق الحبشى والآخر الفريق الطليانى، ويجىء التحرش بعد التحدى ثم الصدام والالتحام، وترتفع صرخات الحرب فى الشارع، ويهرع الأهل من بيوتهم يفضون هذه الاشتباكات اليومية. وكان خالى الأوسط فريد، هو الذى ينزل، ممثلاً أسرة جدى، ليساهم فى فض هذه الاشتباكات، وتوجيه اللوم لنا على أفعالنا الصبيانية المزعجة. كان خالى الأكبر وليم يدرس فى كلية التجارة بالقاهرة، ولم يكن قد عاد بعد. كنا نعيد الكرة يوماً بعد يوم. حتى جاء مساء اشتد فيه وطيس الحرب، فأسرع البعض منا إلى المنازل، لإحضار السكاكين دعماً للمقاتلين فأمسك الأهل بهم. وأسرعنا نحن الثلاثة نستكمل الحرب داخل المنزل نطارد بعضنا البعض، واستغاث خالى فريد بجدى فهرع إليه غير أنه كان قد كبر سناً، فزلقت قدمه وسقط، ثم انطلق وخالى وراءنا وأمسكا بإدوارد ومنير ونالا علقة طيبة. أما أنا فقد هربت إلى السطح حيث كانت خالاتى، فتوسطن عند جدى ليعفو عنى، إذ كنت أصغر الشياطين الثلاثة. وكانت تلك الليلة هى نهاية حرب الزرق والخضر، وإيطاليا والحبشة.
وقررنا نحن الثلاثة ألا نعود إلى لعبة الحرب تلك مرة أخرى، وأن نبدأ فى عمل شىء مفيد، خلال ما تبقى لنا من أيام فى منفلوط. وتوصلنا إلى أن يشكل ثلاثتنا فرقة مسرحية، تتخذ من سطح البيت مسرحاً وقاعة، ومن حجرة الفرن، حجرة للملابس والمكياج. وحددنا أجر دخول المسرح بمليم واحد، يدفعه المتفرج فنسمح له بالصعود إلى السطح ليجلس القرفصاء. وأصبح زبائن المسرح هم أعضاء الفريقين المتناحرين، بالإضافة إلى خالى وخالاتى ووالدتى وسمير ورأفت.
كنا نقدم نمراً، كما نقدم للصبية حلوى بمقدار المليم الذى دفعوه. وكانت واحدة من تلك النمر التى تقدمها غرة سودانية مصحوبة بالرقص. كنا ندهن وجوهنا برماد الفرن أو "هباب" لمبة الجاز لنصبح سود البشرة، ونخرج واحداً بعد الآخر، وقد شمرنا ملابسنا، يمسك كل منا بقطعة خشبية باعتبارها سيفاً أو رمحاً، نخرج من حجرة الفرن إلى خشبة المسرح (الذى هو جزء من السطح)، لنقابل بالتصفيق والتهليل، ونحن نقفز بلا نظام نشوح بالسيف أو الرمح، نرقص ونغنى:
نحن عبيد من السودان
وقت الحرب زى الجان
نضرب بالسيف الرنان
أيا لا موزا وسلمك الله