كتاب " المشوار " ، تأليف د. فخري لبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب المشوار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أبو قرقاص
1936-1940
نُقل والدى من طما إلى أبو قرقاص. نحن نزحف من الجنوب إلى الشمال، من مديرية جرجا إلى مديرية المنيا. ليس لنا منزل حكومى نسكن فيه على المحطة كما كان الحال فى طما. استأجر والدى شقة جميلة واسعة، بجنيهين اثنين فى الشهر. كان يسكن معنا، فى ذات المنزل، ناظر المدرسة الابتدائية التى التحقت بها، بعد أن أنهيت دراستى الإلزامية فى طما.
غدت زوجة الناظر صديقة حميمة لوالدتى. كانت سيدة جميلة للغاية، واسمها إقبال. وكانت أمى تحبها، وتقول عنها لبهائها أنها تركية. انجبت أمى خلفها الخامس، وكانت طفلة جميلة، أسمتها أمى دون تردد إقبال. كانت أمى تحلم بابنة، لذا كانت سعيدة غاية السعادة، وكنا نحن أيضاً فرحين لفرحتها، ولأن الله قد من علينا بشقيقة.
المدرسة الابتدائية فخمة، كبيرة، واسعة، على شكل مستطيل، فصولها مرصوصة حول الضلعين الطوليين، وضلع بالعرض هو المدخل، والضلع المواجه له هو الإدارة. إننا نحس بالاعتزاز ونحن ندخلها. اليوم الدراسى على فترتين، الصباحية حتى الظهيرة، ثم نذهب إلى بيوتنا للغذاء، والعودة لاستكمال اليوم الدراسى، ولا نغادر المدرسة إلا بعد الانتهاء من واجباتنا، وسؤال الأساتذة عما عصى علينا فهمه وإدراكه.
أمام الفصول طرقة واسعة تسير بامتداد المستطيل، ويحدها ناحية حوش المدرسة درابزين خشبى جميل.
المدرسة غنية بمكتبة هائلة يشجعنا أساتذة اللغة العربية على ارتيادها، والإطلاع على ما بها من مجلات كالمقتطف والرسالة. وأغرق فى كتب المنفلوطى، تشدنى لغتها الفخيمة، وأسلوبها الموسيقى، فأكاد أحفظ البعض منها عن ظهر قلب.
أخبرونا ذات يوم أن نكون فى الغد على أتم استعداد، نرتدى أنظف ملابسنا وجواربنا، وقد لمعنا أحذيتنا، وقصصنا شعرنا وأظافرنا.
جاء الغد، وقد غدا مدرسونا فى حالة من التوتر شديدة، وناظر المدرسة يلقى بالأوامر والتعليمات. أوقفونا صفوفاً كالمعتاد. مر المدرسون علينا يفحصونا فحصاً دقيقاً، ومن لم يكن مطابقاً للمواصفات أبعد من الطابور. ثم جُمع من ثم اختيارهم فى سيارة كبيرة، حملتنا إلى حيث لا نعلم شرقى النيل. وقد عرفنا عندما وصلنا أن المكان يدعى "بنى حسن". وأن باخرة سوف تصل وعليها ولى العهد، أمير الصعيد، الأمير فاروق، ابن الملك فؤاد الأول.
وانتقل إلينا قلق الآخرين وتوترهم. غير أننا كنا نحس بالتميز إذ نحن من وقع عليه الاختيار لاستقباله.
لاحت السفينة الجميلة تتهادى، تقترب من الشاطىء. وتعالت منا الهتافات، غير أن المدرسين الملازمين لنا اسكتونا حتى نحتفظ بقوة أصواتنا لحين يمر أمامنا الأمير. كنا منفعلين للغاية، مشدودين كدمى خشبية، نخشى أن يتحرك منا أى جزء حتى إن كان هدب العين. رست السفينة المحروسة، وهبط منها الأمير الشاب. وما أن اتجه نحونا، تحيط به حاشية فخيمة، حتى انطلقنا بالنشيد، بعد إشارة من مدرس الألعاب الرياضية:
بلادى، بلادى، فداكى دمى
وهبت حياتى فدا فاسلمى
غرامك أول ما فى الفؤاد
ونجواك آخر ما فى فمى
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادى ويحيا الملك