كتاب " في مهب الثورة (2) " ، تأليف الفضل شلق ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب في مهب الثورة (2)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمة
على مدى سنوات، تابعت في هذه المقالات الأسبوعية، مجرى الثورة العربية. وكان لي شرف الانحياز إلى الشعوب العربية في مواجهة حكامها. وكان لي شرف المغامرة بتحليلات ومواقف تعبّر عن هذا الانحياز. أهم مما يجري على صعيد السلطة هو ما يحدث لدى الجماهير العربية التي كسرت حاجز الخوف وخاضت في السياسة عبر ميادين التحرير. الحكام العرب صاروا الخائفين والمذعورين عن شعوبهم.
ما زالت النخب الثقافية العربية منقسمة حول الثورة. بعضهم ينكر عليها هذا الوصف، فهي تحتاج بنظرهم إلى برنامج وقيادة. يقال إن الثورة تأكل أبناءها. ربما كان الأصح القول إن الثورة تخلق أبناءها، تخلق البرنامج والقيادة. في البرنامج المسبق قيد، وفي انعدامه حرية. يؤدي الانعتاق إلى عدم استقرار، بل ربما إلى حروب أهلية كالتي نشاهدها في العديد من الأقطار العربية. لكن هذا هو ثمن الحرية.
يمكن أن تتخلى الطبقة (أو الطبقات) المسيطرة عن هويتها بوسائل تلقائية، لكنها لا تتخلى عن سلطتها بالإكراه.
منذ سبع سنوات أخذت قراراً صعباً ربما فرضته الأحداث عليّ. اخترت أن أكتب مقالاً أسبوعياً مفضلاً ذلك على أن أكتب مطوّلات تنشر في كتاب أو كتابين، بحسب ما يتوافر من الوقت الذي بقي لي من الحياة بعد التقاعد. في المقال الأسبوعي مغامرة، أنت مضطر للكتابة في وقت محدد، وذلك لا يترك مجالاً واسعاً للتفكير. وفي كتابة مجلد متماسك هناك مجال أوسع للتنقيح وتصحيح الأخطاء، سواء كانت فكرية أو مطبعية. في المقال الأسبوعي، لا مجال للتشاور قبل الصدور، وفي ذلك مغامرة . أنت مضطر للكتابة تحت ضغط الوقت والأحداث. لا مجال لديك للتأمل إلا بقدر ما يسمح لك الوقت المحدد لإصدار الصحيفة.
كنت خارجاً تواً من تجربة مرة في عمل أحببته وهو: الإعمار لمصلحة بلدي الذي يفترض أنه كان قد خرج من الحرب الأهلية في العام 1989، لكن كان لا يزال مصراً على نهج مسلك النزاع الطائفي بعد أكثر من عشرين عاماً. وكنت بين فترتي عملي في الإعمار قد عملت في رئاسة تحرير صحيفة يومية. وما استهواني العمل الصحافي، اعتبرت أنني لم أوجد من أجله. مهنتي الأصلية والسابقة هي الهندسة الميكانيكية. لا أعتقد أنني فشلت في عملي الهندسي والإداري، لكنني فشلت في العمل الصحافي. الفشل أو النجاح لا تختاره أنت بل تهيئه لك الظروف. فكيف عدت إلى مهنة لا أجيدها؟ ربما كان الجواب هو أن الانتماء إلى قضية ما يحتم عليك التفكير والكتابة بمواكبة أحداث الشعب (أو الشعوب) التي تحمل هذه القضية. لكن القدر هيأ لي مغامرة أخرى.
بعد خمس سنوات من الانتظام في كتابة المقال الأسبوعي، انفجرت الثورة العربية وتناقضاتها، وذلك في بداية العام 2011. ما زلنا نناقش أحداث الأعوام الثلاثة الأخيرة: هل هي ثورة أم لا؟ هناك انقسامات حادة بين النخب العربية حول طبيعة هذه الأحداث. هناك من يرى أن الشروط الموضوعية اللازمة. هذا حوار بين الثقافة كمعطى والسياسة كإرادة. اضطررت لخوض غمار هذا النقاش الحاد، ولست معتاداً الحياد. كنت ولا أزال شديد الانحياز لما أعتبره قضية. لست من مؤيدي الفكرة القائلة «مشيناها خطى كتبت علينا، ومن كتبت عليه خطى مشاها»، لكن الخيار السياسي الواعي لقضايا العروبة وفقرائها لا يترك مجالاً للحياد. عندما احتلت الشعوب العربية الميادين، واقتحمت السياسة، ورفضت الاستبداد، وعبّرت عن إرادة العيش بكرامة، وأنها في طريقها إلى تشكيل أمة تنقصها دولة، وجدت أنني قد كسبت الرهان، وما كانت المغامرة هباء.
كنت في مهنتي الهندسية أحب وأفضل أخذ القرارات التي تبدو حظوظها بالنجاح 50/50 أي غير مضمونة النجاح. نجاح القرارات المضمونة سلفاً يبعث على الملل. لا معنى للحياة إذا لم تكن شبقة مضطربة، ولا أدهى من اضطراب الأفكار. ونحن الآن أمة مضطربة. وذلك يبعث على الشك، وذلك يقود إلى التساؤل، والأجوبة لا بد من أن توجد. وإذا لم توجد الأجوبة ففي الأمر ألغاز، وهذه لا ندري عنها أكثر مما أنها مسائل شديدة التعقيد بحيث تستعصي على الفهم.
الأحداث في المنطقة العربية ثورة شاملة مستمرة. وقوعها في مختلف الأقطار العربية في وقت واحد يشير إلى وحدة الوجدان لدى الشعوب العربية. تحاول القوى الإمبراطورية والأنظمة العربية (وجميعها استبدادية)، احتواءها وإن بأشكال مختلفة. أسقطت هذه الثورة الإسلام السياسي، وأسقطت الاستبداد. في مصر المعروفة بفرعونيتها وتاريخ الأنظمة العسكرية المتعاقبة، يحاكم رئيسان في وقت واحد، الأول عسكري والثاني مدني منتخب. ما زالت مصر تبحث عن مستقر لها.
أهم ما يحدث على صعيد السلطة هو ما حدث على صعيد الجمهور. لا شك في أن سلطة ما سوف تحكم، وسوف تسيطر على الدولة. وكل سلطة ظالمة. لكن الأهم هو أن الناس تحرروا. بحريتهم يصيرون شعباً. انخرطت الجماهير في السياسة، وما عاد حاكم عربي يستطيع ممارسة السلطة من دون أخذ ذلك بالاعتبار. انكسر حاجز الخوف عند الجماهير، لكن الحكام العرب هم الخائفون الآن. يخافون من شعوبهم. وهذا هو مغزى الثورة.
على مدى سنوات تابعت الأحداث العربية، عفواً الثورة العربية، وكان لي شرف الانحياز إلى لشعوب في مواجهة حكامها. وكان لي شرف المغامرة بتحليلات ومواقف تعبر عن هذا الانحياز. وكنت محظوظاً بأن تطابقت ميولي الشخصية مع المتطلبات المهنية.