أنت هنا

قراءة كتاب قضايا وتجليات في رسائل النور

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
قضايا وتجليات في رسائل النور

قضايا وتجليات في رسائل النور

كتاب " قضايا وتجليات في رسائل النور " ، تأليف د. مأمون فريز جرار ، والذي صدر عن دار المأمون للنشر والتوزيع عام 2014 .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 3

فكيف تصرف تجاه هذه الألوان من الظلم غير المحدود؟

من عرف طبيعة شخصية الأستاذ ربما يتوقع منه الموقف الثوري العنيف يواجه به ما أصاب تركيا عموما، وما ناله هو خصوصا من ألوان الأذى والاضطهاد، ولكن الذي كان منه في مسيرة حياته منذ بدء النفي سنة 1925 حتى نهاية حياته كان مختلفا عن التوقع.

كان في بداية النفي فردا غريبا، لكنه مع مرور الوقت، وبدء كتابة رسائل النور تحول إلى أستاذ انتشر طلابه مع امتداد أنوار رسائل النور، حتى كانوا في أواخر الأربعينات قريباً من نصف مليون(11)، وبلغوا قبيل وفاته الملايين(12)، وكانوا رهن إشارته، وكانت ظلمات الكفر تتردد في أنحاء تركيا، والأذى لا يفتر عنه ولا عن طلابه، لكنه آثر منهج الصبر، ولم يتخذ منهج الثورة والعمل السلبي الذي يثير الفتنة في المجتمع، ويكون سببا للقتل والتدمير، وسيلة للتغيير.

ومن المهم للوقوف على نظرة الأستاذ النورسي6 إلى وسائل التغيير الرجوع إلى الدرس الأخير الذي ألقاه على طلابه قبيل وفاته، وهو درس يحدد الطريق إلى ما ترجوه دعوة النور من خير للناس، ويضاف إلى هذا الدرس ويعززه الدفاعات التي ألقاها الأستاذ بنفسه أو أعدها للرد على ما كان يقدم ضده وضد طلبة النور من دعاوى في المحاكم المختلفة. (في نهاية هذه الكلمة مقتطفات من تلك الدفاعات).

كان الأستاذ خبيرا بالتاريخ الإسلامي مطلعا على أحداثه، وكان مطلعا على الأفكار الثورية المعاصرة التي جاءت بها الماركسية التي قامت لها دولة في الاتحاد السوفياتي والصين والبلقان، وكان مطلعا على آثارها السلبية في المجتمعات التي حكمتها، وفي البلاد التي انتشرت فيها؛ ولذلك اتخذ منهجا يبني ولا يهدم، يعمر ولا يدمر، يحفظ البلاد والعباد من كل أثر سلبي، ويحقق مصلحة الإنسان.

وقد حدد الأستاذ ( طريقة العمل لنشر دعوة الله بما سماه "العمل الإيجابي البناء" الذي استوحاه من القرآن الكريم، ذلك العمل الذي يعني القيام بما أمر الله الإنسان به من الدعوة، وأما تحقيق النتيجة فإنه من تدبير الله لا من شأن البشر.

يقول الأستاذ في هذا الشأن:

"إن وظيفتنا هي العمل الإيجابي البنّاء وليس السعي للعمل السلبي الهدام، والقيام بالخدمة الإيمانية ضمن نطاق الرضى الإلهي دون التدخل بماهو موكول أمره إلى الله. إننا مكلفون بالتجمل بالصبر، والتقلد بالشكر تجاه كل ضيق ومشقة تواجهنا؛ وذلك بالقيام بالخدمة الإيمانية البناءة التي تثمر الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي" (13).

وقد يظن من لا يعرف الأستاذ وشخصيته وسيرته، أن هذا المنهج ناشئ عن ضعف أو خوف، والحقيقة بخلاف ذلك فشخصية الأستاذ التي أشرنا إلى لمحات منها في بداية الحديث تثبت بما لايدع مجالا للشك أنه لم يكن يخاف في الله لومة لائم، وسيرته تدل على أنه لم يكن يؤثر السلامة الذاتية، بل كان يفدي غيره بنفسه، ويقيهم ما يستطيع دفعه عنهم من شر.

إن العمل الإيجابي البناء كما يحدده الأستاذ النورسي6 يعني: الجهاد المعنوي أي قيام الإنسان بما هو مطلوب منه من الدعوة التي يسميها الأستاذ الخدمة، وأن يدع تحقيق النتائج لرب العالمين الذي تكفل بها. وفي تسمية الدعوة بالخدمة إشارة إلى أن الأستاذ مستخدم لدى ربه، يعمل لنشر دينه، ونيل رضاه، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ومثله من سار على منهجه من طلاب النور. يقول الأستاذ:

"إن أعظم شرط من شروط الجهاد المعنوي هو عدم التدخل بالوظيفة الإلهية، أي بما هو موكول إلى الله. بمعنى أن وظيفتنا الخدمة فحسب، بينما النتيجة تعود إلى رب العالمين، وإننا مكلفون ومرغمون في الإيفاء بوظيفتنا"(14). وهنا نستحضر قول الله تعالى في بيان وظيفة المؤمنين وفي وعد الله لهم بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)النور: 55 فالمطلوب منهم: الإيمان والعمل الصالح، وتحقيق الوعد هو شأن الله تعالى الذي ييسر لذلك الأسباب.

ومن أسس العمل الإيجابي ومرتكزاته الآية الكريمة (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) الإسراء: 15.

فالعمل السلبي، أي استخدام القوة في السعي إلى الإصلاح الداخلي في المجتمع، يؤدي إلى وقوع الأذى على من لا ذنب له، ويؤدي إلى إيقاد نار الفتنة في المجتمع وزعزعة الأمن الداخلي، وما ينتج عن ذلك من الآثار السلبية المدمرة من قتل أو تخريب .

وبيانا لذلك يقول الأستاذ:

"إن المسألة الأساسية في هذا الزمان هو الجهاد المعنوي، وإقامة السد المنيع أمام التخريبات المعنوية، وإعانة الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة"(15).

والجهاد المعنوي يبدأ من النفس بأن تكون على منهج الله متجردة من أنانيتها، ثم بعد ذلك ناشرة للخير لدى غيرها.

وقد أدرك الأستاذ طبيعة العمل الدعوي المطلوب عندما جاءه رسول من شيخ الإسلام مصطفى صبري ودار بينهما الحوار الآتي:

"يروي الأستاذ (علي أوزك):

عندما قدمت إلى إستانبول من مصر وأنا مازلت طالباً في الأزهر الشريف، استفسرت عن الأستاذ النورسي6، فوجدته ساكناً في منطقة الفاتح في بيت خشبي قديم، ولدى زيارتي له في غرفته رأيته متمدداً على فراشه - من المرض - سلمت عليه، فرد السلام، ولكن حينما أخبرته بأن الشيخ مصطفى صبري يخصك بالسلام، جلس وعدل نفسه وقال بتقدير وإكبار:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وماذا يقول الأستاذ مصطفى صبري؟

- سيدي الأستاذ يسأل الشيخ مصطفى صبري عن عدد طلابكم!

- لي خمسمائة ألف طالب وخادم للقرآن الكريم!

- يقول الشيخ مصطفى صبري.. إذن ماذا ينتظر؟ ولماذا لا يبدأ بجهاد إسلامي مع هذا العدد من طلابه؟

- بلّغ سلامي له أولا، ثم قل له:

إن دعوتنا هي الإيمان، والجهاد يلي الإيمان، وإن زماننا هذا هو زمان خدمة الإيمان ووظيفتنا هي الإيمان وخدمتنا تنحصر في الإيمان...

ثم تكلم بإسهاب عن موضوعات إيمانية، وعن كيفية القيام بخدمة الإيمان، وعندما أردت المغادرة قام ليودعني فقبلت يده وودعته.

ولما رجعت إلى مصر، زرت الشيخ مصطفى صبري، وكان طريح الفراش، وقد أنهكه المرض وأدركته الشيخوخة، حدثته عما دار بيني وبين الأستاذ النورسي6 في تركيا، فاستمع لي جيداً، ثم قال:

- حقاً إن الأستاذ النورسي6 هو المحق، نعم إن ما قاله صدق وصواب، فقد وفقه الله في مسعاه، أما نحن، فقد أخطأنا، حيث ثبت هو في البلاد ونحن غادرناها.

وهكذا استصوب مصطفى صبري عمل بديع الزمان وقوله(16).

الصفحات