كتاب " نرجسية الإبداع في فرادة المرواة " ، تأليف د .
قراءة كتاب نرجسية الإبداع في فرادة المرواة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المرواة واغتيال مفهوم الجنس
أن هيمنة الرواية على الذاكرة منذ القرن السابع عشر بوصفها جنساً أدبياً أدى الى جعلها أحد النماذج القارة التي شيدت لها حضوراً يتكيء على عناصر تتباين في الظهور ما بين الشخصيات والزمكان والحدث والسرد والوصف والحوار، وانعكست هذه الهيمنة على المخيلة التي ترسبت فيها هذه العناصر بفعل تكرار الذاكرة الثقافية التي أخذت تتكرر مع كل نتاج روائي، فإنتجت لنا كماً هائلاً من الروايات التي يتمايز بعضها عن بعضها الآخر حسب ظهور أو هيمنة عنصر دون آخر على مجريات الرواية.
وإذا كان ظهور الرواية متناسباً مع التغيير الحاصل بين طبقات المجتمع ومكوناته الإجتماعية وتعبيراً عن التنوع الثقافي الذي طرأ في بنية المجتمع، كظهور الطبقة البرجوازية التي إستدعت هذا الجنس الأدبي الذي يلبي حاجات هذه الطبقة بكل متطلباتها السسيو-ثقافية وكما يرى هيجل- أن ظهور الرواية مرتبط بالتطورات الإجتماعية/البورجوازية، وأن الانتقال من الشعر إلى النثر انتقال من المشاع إلى الرأسمالية، وأن كل واقع اقتصادي جديد يقرر شكله الأدبي اللائق(10) به، إلا أن المتغيرات الماركسية/ الاقتصادية ليست كافية فحسب، إذ إن المتغيرات السياسية تمثل دوراً بارزاً في فرض تأثيرها ليس على الواقع الإجتماعي فحسب؛ بل على الواقع الثقافي أيضاً. وهذا ما بدى واضحاً بعد الحرب العالميتين وما رافقهما من مساعٍ متصارعة في رغباتها الثقافية لتغيير كل معالم الثقافة والفنون، فكانت الرواية أحد هذه الأشياء التي أصابتها رغبات التغيير، فكان الخروج عنها يمثل خروجاً عن سلطة اللوغوس التي مركزت وجودها منذ قرون واكتسبت معها هيمنة لا يمكن زحزحتها بسهولة؛لأن الأفق القرائي قد حدد معالم تفاعله مع الرواية وفق عناصرها وإن أي خروج عنها سيعد مجازفة قد تودي بصاحبها الى الإتهام بالقصور من ضعف مرده الى عدم قدرته على تأثيث روايته كما إعتادته الأنساق الروائية وبالتالي وقوعه في الفشل والضعف. على أن الحركة الرومانسية الالمانية التي طرحت مشروعها النقدي عن الرواية في مجلة (أتينيوم L'Athenoeum) كانت تسعى الى طرح مشروع الرواية كـ(مطلق ادبي) يستطيع أن يتخطى مسألة الأجناس الأدبية لخلق (كلية عضوية) قادرة على خلق نفسها وخلق عالمٍ غير مجزأ قادر ان يكون خليطاً من المحكي، والنشيد، ومن أشكال أخرى لا تبتعد عن عناصر الرواية حتى ذهب شليغل الى أن (كل نظرية للرواية يجب أن تكون هي نفسها رواية) وضمن التأويلات التي قدمها لوكاش توصل الى أن الرواية شكل مطابق للتجزئة والتشظي والإستلاب ما يوقع شكلها في أتون من الصيرورة الدائمة وهو ما يسمح بتجاوز نفسها بنفسها (11). فكانت المرواة شكلاً جديداً إستولد نفسه بنفسه تمهيداً لتفكيك هذه المركزية الكتابية القائمة من قبل الرواية من خلال علاماتها الفارقة وسماتها المتفردة في وجودها، صراع قائم بين إنكشاف يروم إحتجاباً والمتمثل بعناصر الرواية التقليدية، واحتجاب يروم إنكشافاً والمتمثل بعناصر المرواة الجديدة التي كتب (د.عمار أحمد) بيانها الأول بـ(عين الغيمة بيان شخصي) عام 1993 ثم تحولت هذه التجربة الى مسمى (الكتابة الغيمارية) ناحتاً التسمية من (عين الغيمة) ومن (اسمه/عمار) واعتمدها كموجه قرائي في مرواته (يتفوضى هذا البريء الملغز) المنشورة في جريدة بابل عام 1994-1995 فقد إعتمد المرواتي (د.عمار أحمد) على الحكاية؛ ولكن بذاكرته هو بوصفه مرجعاً ومبتدءاً يخبر عن حكاياته كيف ما كانت تحت محك مخيلته ولغته وبسرد مفكك الترابط متراص الفكرة مع موسيقى شدّت عناصر المرواة الى فن إستطار في كل جمل المرواة مع إلغاء للمقدمة الإستهلالية وإنتزاع المكان من وضعه الجغرافي التاريخي ووضعه في سياق ذهني خلاق أستطاع ان يصور هذه الإمكنة بأشكال تتوقد بالحركة والحياة حتى ((صار الهدف الكبير إيجاد فضاءات كلامية تخرج بقوة على القائم والمنجز، فلا قداسة لجنس أدبي، والركون لسطوته بوصفه تابو منيعاً لا تجاوز لحدوده، نوع من التضامن مع الكل بحكم الخنوع لفكرة القطيع))(12) التي لم تجد صداها في نفسية المرواتي (د.عمار أحمد) الذي سعى الى إجتراح شكل جديد يتجاوز تلك المركزية اللوغوسية في أفكار القراء الذين توارثوا فكرة الجنس الأدبي بكل خصائصه التي كادت تكون مقدسة عند بعضهم، فالرواية عبر عقود من الزمن عملت على تعميق ذلك الوعي وخداعه بفكرة الجنس الذي لا يمكن تجاوزه حتى تم تضليله بأن (ليس بالإمكان أفضل مما كان) وأخذت هذه المركزية بالتوارث والتكرار مع كل المتغيرات التي كانت تعصف بالعالم (( فالذين إبتكروا الأجناس بشر، ولكن القبول الذي حضيت به هذه الأجناس والتقادم الذي رسخها، جعل التمرد عليها والرغبة بتجاوز سطوتها بنظر الكثيرين كفراً أدبياً))(13) لا يمكن إقترافه، وهو وعي زائف تلذذ بخداع نفسه وتسور حول أردية فارغة من المعقولية؛ إذ أن من غير المعقول القبول بالرواية بوصفها جنساً أدبياً والتسويق لها فكرياً وإجتماعياً كولادة شرعية للملحمة، دون القبول في الوقت نفسه بظهور جنس أدبي قد يحمل في بعض ملامحه إنتماءً للرواية لكنه في الوقت نفسه يمتلك بيان الولادة والإستقلال عن غيره، فالوعي يتقدم على نفسه، ولا بد أن يكشف اللعبة التي وقع فيها من إنسياق متوارث كان يصدق في فترة ما لكنه لم يعد صالحاً لفترات بدت تجد معقولية جديدة لا تعترف بتلك التقاليد العقلية من السببية والعلية وقدرتها على بناء فكري متراص، إذ ان المرواة تكشف عن حضورها بعيداً عن السياقات الواقعة تحت تسلط الفكر الأحادي المتمركز والمتعالي وهيمنة التماسك وتاريخ الشكل الإجناسي، فهي يقظة واعية تشكل وجودها بوصفها حركة واقعة ضمن مسارات التاريخ فرضتها ((الأنا المثاليةEgo Ideal وهي الصورة المثالية التي يتمناها الشخص ويحب ان يصل إليها أو أن يسلك مثلها ))(14)بدافع كوامن هذه الشخصية الفاعلة Type-Active والتي تفرض نفسها على الآخرين بسلوكياتها(15)، فالمرواة ليس شكلاً كتابياً جديداً فحسب؛ بل إنفتاح على الوجود برؤية ذات واعية لراهنها التاريخي وموقفها مما يدور حولها بكل زخم الوجود الذي تستشعره، إذ إن الذات الفاعلة تسعى الى تأثيت وعيها وفق منظومتها الذاتية بعيداً عن أي تأثير إستباقي يسعى الى تدجينها ومحو مواقفها المتعارضة مع السائد الذي كوّن قيم أصبحت وجوداً لا تستطيع الأكثرية أن ترى أوسع من هذا الوجود وصولاً الى مواقف قد تعدُّ كل شكل كتابي هو موقف موجه ضدها أكثر منه موقف مفتوح القصدية، ما يدفعها الى تكوين رؤية مشوهة بعيداً عن الموضوعية والإنعتاق من ربض هيمنة السائد.