أنت هنا

قراءة كتاب الفاظ الثواب في القرآن الكريم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفاظ الثواب في القرآن الكريم

الفاظ الثواب في القرآن الكريم

كتاب " الفاظ الثواب في القرآن الكريم " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

وذهب بعضهم إلى أَنَّ المجاز والتوسع فيه من العوامل التي أسهمت في ظهور المشترك([68]). إذّ إنَّ وظيفة (الاستعمال المجازي (هي) إلحاق مدلول جديد بمدلول قديم، عن طريق العلاقة المباشرة بين المدلولين)([69]).

والذي يبدو لنا: أَنَّ المشترك اللفظي لا يمثل هذه العلاقة بين المدلولين، و إنَّما هو موضوع لحقيقتين مختلفتين أَو أَكثر، كما رأينا من تعريفاته، ولهذا فهو (يعبّر عن معنيين متباينين)([70]). ومن هذه العوامل، أَيضاً: الاقتراض اللغوي والتغير الصوتي واختلاف اللهجات العربية القديمة، والتغيير في الحياة الاجتماعية والعقليّة، والتطور الدلالي الديني الاصطلاحي، وسوء فهم المعنى([71]).

ومما لا شك فيه: أَنَّ المشترك يحتاج إلى قرينة، تصرفه إلى أحد معانيه([72]). لأَنَّ اللغة تقرر أَنَّه لا يصح أَن يُراد من اللفظ كلا معنيية ولا كل معانيه دفعة واحدة، بلا لا بد أن يراد منه معنى واحد في الاستعمال الواحد، لأَنَّ الكلام للإفهام ([73]). فاذا تجرد عن القرائن ا لصارفة، وجب حمله على معانيه كسائر الأَلْفاظ العامة، وذهب أُستاذنا كاصد ياسر الزيدي إلى أَنَّ ذلك يغني دلالة اللفظ، ويدفع اختصاصه لواحد من معانيه المتعددة بلا مخصص قطعي أَو قرينة حاسمة([74]).

وعند بعض المتأخرين من الأصوليين يُحْمَل على أحد معانيه مجازاً لا حقيقة، والحق أَنَّ اللّفظ في هذا الحكم بمنزلة العام([75]). فهو محمول على الاشتراك المعنوي([76]).

وثمة ألفاظ يظن أَنَّها من المشترك اللفظي، وهي من الاشتراك الكاذب، كوجود كلمة في صيغة الجمع، أَشبهت أُخرى في صيغة المفرد، أَو تشابه اسم وفعل في النطق أَو تشابه صيغ مختلفة الأصل والاشتقاق([77]).

وقد أَسهم أصحاب المعجمات في تضخيم مشكلتي المشترك والمترادف على حد سواء لاختلافهم في تفسيرهما، ولا سيما إذا شحّت النصوص الواضحة التي يتحدد فيها معنى لفظة من الأَلفاظ([78]).

والذي ينبغي أَنّْ يشار اليه، هو أَنَّ المشترك اللفظي يمكن أَنّْ نجده في الأَلْفاظ مجردة من النصوص. أَمّا إذا كان اللفظ مستعملاً في نصوص مع قرائن معينة، فإنَّ هذه القرائن قد تصرفه إلى معنى محدد، كما أَنَّ هذا التخصيص في المعنى لا يقتصر على القرينة اللفظية فقط، بل يعتمد القرينة السياقية والعقلية والحالية أَو مقتضى المقام([79]).

وعدّ هيوراث دن: المشترك اللفظي من عيب اللغات وقصورها، وذلك في معرض حديثه عن اللغة في بدء نشأة الإنسان مشيراً إلى أَنَّ الإنسان كان يعبر باللفظ الواحد على المعاني الكثيرة. وبنى على ذلك: أَنَّ المشترك ينبغي أَلاّ يعد دليلاً على رقي اللغة، إلاّ إذا استطاع المتكلم أَنَّ يجد لهذه المعاني دوالّ أخرى مستقلة، غير هذا المشترك اللفظي. ومن الأمثلة التي ذكرها دلالة الروح على ما حياة، والملك والوحي، والقرآن، وجبريل، وعيسى، وكذلك العين الباصرة، والجارية، والسحاب، واليد، والذهب، والجاسوس([80]).

والحق أَنَّ قدرة الكلمة الواحدة على التعبير عن مدلولات متعددة، إنمّا هي خاصية من الخواص الأساسية للكلام الإنساني.. وقد تعيش المدلولات القديمة جنباً الى جنب مع المدلولات الجديدة... [إنَّ اللغة في استطاعتها أَنْ تعبّر عن الفِكَرِ المعددة بواسطة تلك الطريقة الحصيفة القادرة التي تتمثل في تطويع الكلمات وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة، وبفضل هذه الوسيلة تكتسب الكلمات نفسها نوعاً من المرونة والطواعية([81]).

وقد دُرِسَ المشترك اللفظي في علوم القرآن تحت مصطلحي (الوجوه والنظائر)، وعرّفه الزركشي (ت 794 هـ) بقوله: (فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ الأمة، والنظائر كالأَلْفاظ المتواطئة. وقيل: النظائر في اللفظ ، والوجه في المعاني، وضّعف (هذا الرأي) ، لأنه لو أريد هذا لكان الجمع في الأَلْفاظ المشتركة، وهم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي عناه واحد في مواضع كثيرة، فيجعلون الوجوه نوعاً لأقسام، والنظائر نوعاً آخر. كالأمثال)([82]).

والملاحظ: أَنَّ الوجوه للفظ الواحد في القرآن الكريم، قد نجد بينها علاقة واضحة في الظاهر، وقد تكون هذه العلاقة غير ظاهرة([83]). وتكشف الوجوه والنظائر عن الإحساس بأنّ اللفظ الواحد في القرآن الكريم ذو دلالات عديدة تبعاً لِتعدد السياقات واختلافها. ومما لا شك فيه: أَنَّ للفظ الواحد معنى محدداً أو وجهاً محدداً. و أَنَّ باقي الوجوه أَو المعاني دلالات فرعية([84]). وهذا هو ما سيتضح في مستقبل هذه الدراسة.

أَما المشكلة الثانية في دراسة الدلالة، فهي: الترادف، الذي أَشار اليه سيبويه بقوله: (من كلامهم... اختلاف اللفظين والمعنى واحد... نحو ذهب وانطلق)([85]). وأشار الشافعيّ إلى أَنَّ من سنن العرب في كلامها: أَنْ (تسمي الشيء الواحد بالاسماء الكثيرة)([86]). وفسره عبدالقاهر الجرجاني ( ت471 هـ) بمعنى: (التقابل في كل الخصائص)([87]).

أَمّا الغزالي، فقد حدّ المترادفات بدقة، فقال: (هي الأَسماء المختلفة الدّالة على معنى يندرج تحت حد واحد)([88]). واشترط في هذه الأسماء المتواردة على المسمى الواحد أَنْ يتناول كل واحد المسمى (من حيث يتناوله الآخر من غير فرق)([89]). وهو بهذا يحلّ المغالطة التي قد تنشأ من التباس الأَلْفاظ المترادفة بالمتباينة (وذلك إذا أُطلقت أسام مختلفة على شيء واحد باعتبارات مختلفة ربما ظُنَّ: أَنّها مترادفة)([90]).

فالاتحاد في المفهوم أَو الاعتبار الواحد شرط لا بّد منه لتحقق معنى الترادف([91]). وهذا – كما قال أُستاذنا الزيدي- : (وهو الأَقْرب في ما يبدو إلى واقع اللغة وقصد المتكلم)([92]).

وقيّد التهانوي (ت ؟ هـ)([93]) الترادف بالوضع والحقيقة، فأخرج المجاز([94]). بيد أَننّا لا نملك القطع بحقيقة الأَلْفاظ من ناحية الوضع الأصلي. لأَنَّ ذلك أمر مجهول، كما أَنَّ الحقيقة والمجاز متداخلان في اللغة، وليس لهما صفة الثبات ([95]).

ولعل من الشروط الدقيقة للمترادفات: الاتحاد التام في المعنى، أو التطابق في المدلول العقلي والعاطفي، وقابلية التبادل فيما بينها في أَيّ سياق([96]). وأن يكون من لغة واحدة لا لغات متعددة([97]). يضاف إلى ذلك الاتحاد في البيئة اللغوية والعصر([98])، وأَلا يكون أحد اللفظين قد نشأ نتيجة تطور صوتي([99]).

والحقّ: إنَّ أَدَقَ وسيلة لتحديد الترادف هي: الاستعمال في الواقع اللغوي مع الاهتداء بتلك الشروط ([100]). وملاحظة عدم المبالغة فيها (لأَنَّ اللفظ كثيراً ما يستعمل في غير ما وضع له لحال شبيهة بحال وضعه ومعناه، وقد لا يلمح بسهولة أصل اللفظ المنقول فيما نقل إليه لكثرة استعماله فيه، وقد يُنسى الوضع الأصلي، حتى اختلف العلماء حينئذ : هل هو وضع ثان؟ أَمْ هو باق على المجاز؟)([101]).

وليس من المفيد هنا أن نناقش آراء الذين أَنكروا الترادف، أو أَثبتوه، وأدخلوا فيه العبارات والتراكيب([102])، ويكفي أَنْ نشير إلى أَنَّ الترادف في المفردات، وإحساس الناطقين باللغة والاستعمال النصّي هما اللذان يحددانه([103]).

فقد ذكر السيوطي أَنَّ المازني قال: سمعت أَبا سرار الغنوي يقرأ: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَسَمَةً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)([104]). فقلت له: إنما هي نَفْساً. قال: (النَّسَمَةُ والنفس واحد)([105])، فيمكن أن تعزى كثرة المترادفات في العربية إلى الأسباب الآتية:

- عدم التفريق بين النعوت للمسمى الواحد وأسمه.

- اختلاط لغات قبائل مختلفة، واختلاف البيئات وعدم تنبيه اللغويين على ذلك.

- التوسّع في طرق الفصاحة.

- الاقتراض اللغوي.

- التغيّر الدلالي الذي يحدث للألفاظ في أَطوار حياتها([106]).

والترادف في القرآن الكريم نادر في رأي ابن تيمية (ت 728هـ) فقد قال: (وقلّ أن يعبّر عن لفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه)([107]). لأَنَّ الأَلْفاظ التي تبدو وكأنها مترادفة في القرآن الكريم، يتميز كل منها بخاصة من صاحبه، ويستعمل في موضع، يناسب تلك الخاصة أو الصفة([108]). تشعر بدقة استعمال القرآن لمفرداته([109]).

ولعل إبراهيم أنيس - رحمه الله - قد تعجلّ بمؤاخذة المفسرين لالتماسهم فروقاً بين المترادفات في القرآن الكريم، ومثّل لذلك بألفاظ، وردت في سياقات معينة في القرآن الكريم منها: عدم تفريقه بين مثوى ومأوى([110])، والذي يبدو أَنَّ لفظ (مأوى) من معانيه: الالتجاء والتجمع في مكان ليلاً أَو نهاراً، على حين نجد أَنَّ لفظ (مثوى) من معانيه: الإقامة بالمكان ليلاً، قال الأَعشى:([111])

أَثْوى وَقَصَّرَ ليلةً لِيزوَدَّا فَمَضَت وَأَخْلَفَ مِن قُتَيْلَةَ مَوعِدا

... والثانية: حجارة ترفع فتكون علماً بالليل للراعي إذا رجع([112]). ومما لا شك فيه أَنَّ الارتباط الزمني لكل من اللفظين يلقي ظلاله على قوله تعالى:

}وَبِئْسَ مَثوَى الظَّالِمِينَ{([113])

وقوله: }فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى{([114]).

وأَنَّ الترادف إذا ما وقع في آيات القرآن الكريم فإنَما هو (لمعان أبعد مما يدل عليه ظاهر اللفظ)([115]). وسنأتي على توضيح هذا وتحقيقه في المستقبل من هذه الدراسة.

والمشكلة الثالثة من مشكلات الدلالة بعد الاشتراك والترادف موضوع: المجاز، الذي يعّد شاهداً على التغيّر الدلالي للأَلْفاظ، وقد اشترط الجاحظ (ت 255 هـ) لنقل اللفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية أَنْ يكون بين المعنى المنقول إليه اللفظ، والمعنى المنقول عنه علاقة ما، و أَنَّ حرية النقل من حق الجماعة، لأَنَّ وظيفة اللغة هي التواصل والإبانة([116]). وهذا لا يمنع أن يمارس الأَفْراد المبدعون حقهم في النقل، ولكن شيوع هذا اللفظ المنقول تحدده الجماعة في استعمالها([117]).

وقد أشار عبدالقاهر الجرجاني إلى اشتراط العلاقة بين المعنى المنقول إليه اللفظ والمعنى المنقول عنه، إذْ عرّف اللفظ الحقيقي بأَنّه (كل كلمة أريد بها ماوقعت له في وضع واضع... وقوعاً لا تستند فيه إلى غيره... وأَمّا المجازي فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول):([118])وهذه الملاحظة تكون إمّا تشبيها، وإمّا لصلة وملابسة بين ما نقلها إليه، وما نقلها عنه([119]).

وذكر الغزالي أَنَّ اللفظ الحقيقي هو : (ما استعمل في موضوعه، والمجاز ما استعملته العرب في غير موضوعه)([120]). وقد أشار بعض الباحثين إلى أَنَّ مسألة الوضع الأول لا يمكن القطع أو الإحاطة بها([121]). وإنّما يُعَوَّل في الدلالة على الاستعمال. ولذلك ذهب الآمدي إلى أَنَّ الأَلْفاظ (إنّما تصير حقيقية ومجازاً باستعمالها)([122]).

وأَكّد ابن خلدون (ت 808 هـ) أَنَّ معرفة الوضع الأَوّل ليست كافية في التركيب حتى يشهد لهذا الوضع استعمال العرب له([123]). وإذا كان السيد الجرجاني؛ صاحب: التعريفات قد اشترط في المجاز اللغوي: القرينة المانحة عن إرادة المعنى في اصطلاح التخاطب([124]) فإنَّ ابن تيميمة قد جعل من هذه القرينة قيداً يبيّن المعنى، ولم يفرّق بين الحقيقة والمجاز، بل جعل أَلفاظ القرآن كلها حقيقة([125]).

واللفظ إذا صُرِفَ عن ظاهره إلى مجازه، فلا بدّ من بيان امتناع إرادة الحقيقة، وبيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى المجازي، وبيان تعيين ذلك المجمل إنْ كانت له عِدة مجازات، والجواز عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة([126]). لأَنَّ الأساس أَلاّ يحمل اللفظ على المجاز، إذا أَمكن حمله على الحقيقة([127]).

ومما لا شك فيه: أَنَّ المجاز ضرب من ضروب التنمية اللغوية([128]). وحدث لغوي يفسّر لنا نموّ اللغة بتغيّر دلالة أَلفاظها بما يضيفه من قرائن وعلاقات جديدة بين المعاني والأَلْفاظ([129]). وإذا كانت الحقيقة استعمالاً شائعاً مألوفاً للفظ من الأَلْفاظ، والمجاز انحرافاً عن المألوف الشائع([130])، فَإنَّ هذا المجاز لا يلبث أَنَّ يصير حقيقة متعارفاً عليها، مقيدة بعرف البيئة وتواضعها([131]). لذا فالمعتبر من العلامات: (أَنَّ اللفظ إذا تبادر مدلوله إلى الفهم عند الإطلاق بلا قرينة فهو حقيقة، وإنْ لم يتبادر إليه إلاّ بالقرينة، فهو مجاز)([132]).

ومن المسائل التي تتعلق بالحقيقة والمجاز ما ذهبت إليه وفرة من الباحثين في تفسير نشأة الدلالة بأَنَّها (بدأت بالمحسوسات، ثم تطورت إلى الدّلالات المجردة بتطور العقل الإنساني ورقيّه، فكلمّا ارتقى التفكير العقلي جنح إلى استخراج الدلالات المجردة وتوليدها والاعتماد عليها في الاستعمال، وهنا نلحظ أَنَّ الدلالة تنتقل من مجال المحسوس إلى مجال الدلالات المجردة، ويمكن تسمية هذه الظاهرة بالمجاز أَيضاً)([133]).

ويبدو أَنَّ التسليم بفكرة الجذور الحسية للأَلْفاظ أَمر لا يمكن إعمامه لأننّا قد نجد أَلفاظاً لا تُعرَفُ لها دلالات حسية كـ: (الايمان، الود، الصّدق..) فما هي دلالاتها الحسية؟.

هذا من جهة ومن جهة أخرى، فالدلالات الحسيّة نفسها تعبّر عن إدراك الإنسان وتصوراته للأشياء، فهي من الناحية العملية تعبّر عن موقف إنساني مركب. وإذا كانت الجذور الحسية تمثّل معاني الكلمات في حقبة من حقب التاريخ([134]). فإنَّ المعجم التاريخي هو الذي يقطع بالانتقال في دلالة الأَلْفاظ التي يشهد لها الواقع اللغوي، وغياب المعجم التاريخي هو الذي يقّوي التحرز المذكور.

وإذا كان المجاز اللغوي في القرآن الكريم كثيراً ما يستعمل لتجسيم أمور معنوية، ولإثارة معان حسيّة قديمة([135]). كاستعمال: الخراج والحرث في موضع: الثواب- كما سيأتي بيانه – فالحقيقة في القرآن الكريم تكتسب دلالات ثانية، مبعثها: النظم والتأليف([136]). (إذْ به تُتَبَيَّنُ أُصول المقاصد بالدّلالة)([137]) ولأَنَّ (من الأَلْفاظ المفردة لا تستعمل لإفادتها مدلولاتها المعنوية إلاّ عند التركيب)([138]).

وعلى الرغم من أَنَّ اللفظ يحمل معنى إفرادياً خاصاً به، إلاّ أَنَّه يحمل معنى تركيبياً من خلال وضعه في الأسلوب([139]).

وقد بيّن استاذنا محيي الدين توفيق أَنَّه قد (تجتمع لفظتان فأكثر في تركيب معنى إسنادي فينشأ عن هذا التركيب معنى جديد لا تدل عليه معاني الأَلْفاظ الداخلة فيه كل على حدة. غير أن هذا المعنى الجديد لم ينشأ اعتباطاً بل تربطه بمعاني الأَلْفاظ روابط مختلفة)([140]).

وأَوضح أَنَّ التركيب الإسنادي قد يسلك سبيل الجملة الفعلية، أَو سبيل الجملة الاسمية، وقد لا يكون التركيب تركيباً إسنادياً، بل شبه جملة. وبيّن السبل التي يتخذها المصطلح اللغوي في الانتقال من المعاني الحقيقية إلى المجازية، فوجدها:

- إمّا أَنْ تكون على سبيل علاقات المجاز المرسل.

- و إمّا أَنْ تكون على سبيل الاستعارة.

- و إمّا أَنْ تكون على سبيل الكناية([141]).

وهذا الكلام يقود إلى بيان أَثر السياق في تحديد دلالة اللفظ، لأَنَّ اللفظة قد لا تكفي في الدلالة على المقصود، فتنشأ الحاجة إلى السياق كله لاستجلاء المعنى المراد([142]). (وكأَنَّ هذا السياق هو الحقيقة الأولى، ولا وجود للكلمات في خارجه)([143]). وما البحث في دلالات المفردات إلاّ مِنْ أَجل أَنْ نرى مدى نهوضها أَو عجزها عن تحمل الأَعباء الفكرية المنوطة بالسياق([144]).

وقد أَشار الشافعيّ إلى أَهميّة السياق- قديماً- وسمّاه: الصنف الذي يبيّن سياقه معناه([145]). بيد أَنَّ سياق الكلام ليس المؤثر وحده في تحديد الدلالة، و إنَّما تضاف إليه الظروف الحالية والمقالية([146]). وقد بيّن الغزالي أَنواع القرائن، فذكر أَنَّها:

- إمّا لفظ مكشوف...

- و إمّا إحالة على دليل العقل...

- و إمّا قرائن أَحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر ([147]).

وأفضل قرينة هي موافقة اللفظ لما سبق له من القول، ونهوضه بجملة المعنى، واتفاقه مع قصد الشارع([148]).

ويلاحظ أَنَّ اللفظ لا يعيش منعزلاً في المعجمات([149])، و إنمّا تستنتج دلالته من خلال الاستعمال في مجموع النصوص([150])، وتبقى دلالته في الاستعمال متصلة بالمعنى الأصلي، ويبقى السياق كاشفاً عن معنى محدد كامن من المعاني التي يحملها اللفظ خلال العصور([151]).

ولا بد أَنْ ننتبه إلى المعاني القديمة والمعاني الجديدة للفظ لأَنَّ (المعنى في كل استعمال يتجدد تجدداً كلياً)([152]). مع ملاحظة أَنَّ المعاني الجديدة لا تنفك عمّا فيها من دلالات على معانيها اللغوية، ولا سيما الأَلْفاظ الشرعية([153]). إذْ إنَّ أصل المعنى اللغوي موجود، ولكنّ الشارع تصرّف فيه إمّا بتقييد أَو إطلاق([154]).

وقد نظر الشاطبي (ت 790هـ) إلى اللغة باعتبارين:

أَحدهما: من جهة كونها أَلفاظاً مطلقة دالة على معانٍ مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.

والثاني: من جهة كونها أَلفاظاً وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة التي تُنْشِئُها أُمور تتعلق بالحال والمقام والسياق وغير ذلك([155]).

ومن الدارسين من نظر إلى المعنى بوصفه مجموعة من الدوائر المتحدة المركز المختلفة الحدود، وهذا المركز هو القدر المشترك من الدلالة، واختلاف حدود الدوائر يتمثل في قوة الكلمات على الاستدعاء البيئي والشعوري والعقلي باختلاف المتلقين([156]). وهذا المعنى الاستدعائي قد يتمثل في جرس الكلمة واستجابة الذوق إليه([157]).

وقد بيّن أُستاذنا الزيدي أَنَّ الجرس في القرآن الكريم كان أَداة فنية مرتبطة بقيم القرآن ومفاهيمه عن الله والطبيعة والإنسان. وهو ذو تأثير مباشر في نفس المتلقي. إذ استعمل القرآن أَلفاظاً ذات جرس وإيقاع يتلاءمان مع الجو الحسّي والنفسي الذي أراد بيانه([158]).

وإذا كنا فيما تقدم بيانه قد توصلنا إلى أَنَّ دلالة الأَلْفاظ متغيرة، فإنَّ لهذا التغيّر مظاهره التي تتلخص في تخصيص الدلالة وتعميمها وانتقالها ورقيّها وانحطاطها([159]).

ولا ريب في أَنَّ التغيّر الدلالي قد حدث في اللغة العربية، وما زال يحدث، وقد تغيرت دلالات كثير من الأَلْفاظ التي كانت مستخدمة قبل الإسلام وبعده قليلاً أو كثيراً. ولا يمكن -والحال هذه- أَنْ نفهم الإسلام إلاّ بدراسة دلالات مفردات اللغة العربية ونصوصها في العصرين المذكورين ([160]). مع التسليم بأَنَّ العلاقة بين اللفظ ومدلوله علاقة اصطلاحية، تستند إلى العرف الاجتماعي([161]). إلاَّ أَنَّ ثمة مشكلة تثار في دراسة دلالة أَلفاظ القرآن الكريم، يمكن تلخيصها والنفاذ إليها بالسؤال الآتي:

هل إِنَّ أَلْفاظه لها دلالة أَصلية هي المتعارف عليها في عصر نزوله، تضاف إليها دلالة ثانوية يحددها الاستخدام النصي؟ أَم أَنَّ دلالة الأَلْفاظ يبينّها النص القرآني من جهة، وفهمها يكون على أساس تاريخي من جهة أخرى؟([162]).

والذي يبدو أَنَّ أَلْفاظ القرآن الكريم، إذا عرف تفسيرها، وما أُريد بها من جهة النبي r كان ذلك أَولى([163])، فالرسول r قد بيّن مثلاً الدلالة الشرعية للفظ: الصلاة، وإِنْ كان الملاحظ أَنَّ هذه الدلالة مشتملة على الدلالة اللغوية، لتضمن الصلاة شرعاً معنى الدعاء. لذا ينبغي أَنْ (يلحظ الترابط بين المفهوم الشرعي واللغوي للأَلْفاظ وما بينها من وشيجة في الدلالة)([164]). والذي لا مراء فيه (أَنَّه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود العرب الذي نزل القرآن بلسانهم. فإِنْ كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة..( و ) يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب)([165]). كما أَنَّه يمكن (أَنْ يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر، فربّما استعمل بمعان مختلفة)([166]).

ومما لا شك فيه: أَنَّ القرآن الكريم (حينما يستعمل كلمة ما في تعبير، يقصد من استعمالها بعينها دون غيرها معنى لا يوجد في سواها... حتى لا تضلّ المعاني في الأَفهام، ويضيع المقصود بين الاحتمالات)([167]).

أَمّا بيان دلالة الأَلْفاظ القرآنية على أّساس تاريخي، فلا خشية منه، إذا كان المقصود النظر إلى دلالة اللفظ في عصر ما قبل الاسلام ودلالته القرآنية، أَمّا أَنْ ندرس دلالة اللفظ في القرآن بالنظر إلى التغيّر الدلالي الذي طرأ على اللفظ بعد عصر نزوله، فهذا ليس جائزاً، لأَنَّ هذا التغير معنى حادث بعد النص، وقد تكون له دلالة اصطلاحية مغايرة([168]).

وهكذا نجد (أَنَّ فهم القرآن بدراسة دلالة أَلْفاظه تقريناً من الصورة التي فهمها العرب، ذلك لأَنَّ الله -سبحانه وتعالى- أَنزل القرآن بلغة العرب وأَساليبهم الكلامية)([169]). وعلى هذا فسنعمد في دراستنا الدلالية هذه إلى مجموعة من الأَلْفاظ التي تنتمي إلى موضوع: الثواب لتقويمها بمنهج وصفي، تقف فيه على المعنى أَو المعاني التي تدل عليها الكلمة عند نزول القرآن، وقد نشير إلى كيفية اكتساب الكلمة لمعناها هذا من خلال المنهج التاريخي، قبل محاولة الوقوف عند دلالاتها الإيحائية([170]).

وفي كل ذلك نحتاج إلى (الرجوع إلى الأصل عند النظر في الاشتقاق، وتصريف اللفظة على وجوهها المختلفة، وبيان الصيغ المتعددة، والإشارة الى نظائرها، ونقائضها في اللغة وغير ذلك مما يعد من صميم البحث اللغوي)([171]).

الصفحات