كتاب " الفاظ الثواب في القرآن الكريم " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الفاظ الثواب في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ومن: ثاب، قولهم: (ثائب)، يقال: ثائب البحر.. أَي: ماء مَدِّهِ، وإِذا وُصِفَ قوم بِأَنَّ لهم ثائبا، عُنِيَ بذلك: أَنَّهم وفدوا جماعة إثر جماعة كموجات المد. قال النابغة الجعدي([189]):
ترى المعشرَ الكُلفَ الوجوهِ إِذا انْتَدوا لَهُمْ ثائِب كالبحر لم يَتَصَرَّمِ
والثائب أَيضاً: (الريح الشديدة، تكون أَوَّل المطر)([190])، وسمّوا الرياح ذوات اليُمْنِ والبركة التي يرجى خيرها: مستثابات، قال كثيرّ([191]):
إِذا مستثابات الريّاح تنّسمت وَمَرَّ بسفافِ التُرابِ عَقيمها
وسُمِّيَ خيرُ الرياح: ثوابا([192]). وقد أطلقت صيغة (ثواب) نفسها على العسل والنحل، أَمّا العسل فَلأَنَّ النحلَ يثوب إليه، قال الشاعر([193]):
فهو أَحلى من الثواب إِذا ذُقْتُ فاهـــــــا وبـــــارئ النَّسَمِ
و أَمّا النّحل فلأَنّها تثوب، قال ساعدة بن جُؤَبيّة([194]):
مِنْ كُلِّ مُعْنِقَةٍ وكلّ عِطافَةٍ مِمّا يُصدِّقُهــــــــــا ثوابٌ يَزْغَبُ
وممّا لا شك فيه: أَنَّ معنى الرجوع والمعاودة في هذا الاستعمال واضح.
ومن دلالات هذه الصيغة: العطايا أَيضاً؛ قال عديّ بن زيد([195]):
إذا أَنْتَ طالبتَ الرجالَ ثوابهم فَعِفَّ ولا تطلبْ بجهدٍ فتنكدِ
يعني: ما يرجعون إِليه من العطايا.
أما: ثاب، فمعنى: رجع، فقد استعمل في اللغة بعدة سياقات، منها: (ثاب الحوض إِذا امتلأ، قال (الراجز):
* إِنْ لم يَثُبْ حوضُك قبل الرِّيِ *
وهكذا كأنه خلا ثم ثاب إليه الماء، أَو عاد ممتلئاً بعد أَنْ خلا)([196]).
(ومن المجاز ثاب إليه عقله وحلمه)([197])، وجاء من غير الثلاثي قولهم:
أَثاب الرجل، أَي: رجع إليه جسمه، وصلح بدنه([198])، بعد الهزال([199])، وحسنت حاله بعد تحوله، ورجعت إليه صحته([200])، ومنه قولهم: (ذهب مال فلان، فاستثاب مالا، أَي: استرجع، ويقول الرجل لصاحبه: استثبتُ بمالك، أي: ذهب مالي، فاسترجعته بما أَعطيتني)([201])، قال الكميت([202]):
إِنَّ العشيرةَ تَستثيبُ بمالــه فتغير، وهو موفرٌ أَموالَها
أَمَّا (ثّوَّبَ) المضّعف، فأَصله: أَنَّ الرجل: (إِذا جاء فزعاً أَو مستصرخاً لوّح بثوبه فكان ذلك كالدعاء والإنذار)([203])، قال الفرزدق([204]):
وبهنَّ ندفع كربَ كلّ مثوّبِ وترى لها حُدَداً بكل مجالِ
والثّوّابُ: صاحب الثياب الملبوسة([205])، ويحتمل أَنْ يكون القول من معنى: الرجعة (لأَنَّه يلبس، ثم يلبس، ويثاب إليه)([206]). أَو ربّما سمي بذلك (لرجوع الغزل إلى الحالة التي قُدِّرَتْ له)([207]). (وربّما عبروا عن النفس بالثّوب فيقال: هو طاهر الثياب)([208]). أَي: (بريّ من العيب، وعكسه دنس الثياب، ولله ثوبا فلان،... قال الراعي([209]):
فأومأت ايماءً خفيّاً لِحَبتَرٍ فَلِلّهِ ثَوبا حَبْتََرِ أَيَّما فتى
أَمَّا (ثبة): فهي: (ما اجتمع إليه الماء في الوادي أَو في الغائط)([210]). وهي أيضاً: (الجماعة من الناس)([211]). وقال القرطبي( ت 672 هـ) في توجيه العلاقة بين اللفظين بالمعنيين: (ربما توهم الضعيف في العربية أَنَّهما واحد، و أَنَّ أَحدهما من الآخر؛ وبينهما فرق، فثبة الحوض يقال في تصغيرها: ثُوَيْبَةٌ، لأَنَّها من ثاب يثوب. ويقال في ثُبَةِ الجماعة: ثُبَيَّةٌ... فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل، وثبة الجماعة معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو. ويجوز أَنْ يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض لأَنَّ الماء إذا ثاب اجتمع)([212]).
وهذا أرجح من القول بأَنَّ ثبة الجماعة )(إِنَّما اشتقت من ثبيّت على الرجل. إِذا أثنيت عليه في حياته)([213]). لأَنَّ الشائع في معنى: ثاب: الرجوع والاجتماع.
أما (الثيّب) فيقال: (بئرٌ لها ثَيّبٌ، أي: يثوب الماء فيها)([214]). والثيّب من النساء (التي تزوّجت، وفارقت زوجها بأي وجه كان بعد أَنْ مسّها. قال أَبو الهيثم: امرأةٌ ثيّب، كانت ذات زوج، ثم مات عنها زوجها، أَو طلقت ثم رجعت إلى النكاح.. وقال الأصمعي: امرأة ثيّب ورجل ثيّب، إِذا كان قد دُخِلَ به، أَو دُخِلَ بها، الذكر والأنثى في ذلك سواء.. وقد يطلق: الثيّب على المرأة البالغة، وإِن كانت بكرا مجازاً واتساعاً([215]).
وبعد هذا الاستعراض لدَلالات الصيغ التي جاءت في استعمالات العرب لجذر: (الثاء والواو والباء) يبدو لنا أنها تشتمل على معنى: الرجوع والاجتماع بعد تفرق، وقد ارتبطت في الأَغلب بمعاني الخير، فقد اقترنت بالماء سواء أكان في الآبار أَم غيثاً، أَو مدّا، والماء مصدر الحياة، قال تعالى:}وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ{([216]).
وهو عند العربي ذو مكانة خاصة في بيئته الصحراوية القاسية. ومن معاني الخير فيها: إطلاقها على العسل الذي فيه شفاء للناس([217])، وإطلاقها على رجوع العقل والصحة إلى الإنسان، ومما يتصل بتلك المعاني أَيضاً دلالتها على المنزل، وما فيه من سكن وطمأنينة. ولم يتصل منها بما يبتعد عن معاني الخير إلى قريب من الشرّ إِلاّ (ثَوَّبَ) مضّعفاً، في حالة الخائف والمستصرخ الملوّح بثيابه كما تقدم. ([218])
أما استعمالاتها القرآنية التي سنعرض لها بالتحليل والتفسير فسبعة: (ثوّب، أثاب ، ثواب، ثياب، مثوبة، مثابة ، ثيّب). منها ما استعمل في دلالته اللغوية، ومنها ما حمل دلالة شرعية:
الثياب :
ويحسن أَنْ نبدأ بهذه الصيغة، ولأَنّها أسبق الصيغ وروداً في السور منسوقة على تاريخ النزول، فقد وردت في سورة المدثر المكية الرابعة في تسلسل النزول([219]) ، وقد استعملت بدلالتها اللغوية ثماني مرات في القرآن الكريم.
الأولى: في قوله تعالى:}يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ{([220]).
وقد دار لفظ (الثياب) عند المفكرين بين الحقيقة والمجاز، والذي أداروه على المجاز([221]) جعلوه كناية عن النفس، أو الأعمال التي تصدر عنها، فعبدالله بن عباس (ت 68 هـ) ومولاه أَبو عبدالله عكرمة البربر..(ت 104 هـ) قد ذهبا إلى أَنها تُشير إلى النهي عن الغدر، لأَنَّ الغادر دنس الثياب، واستشهدا بقول غيلان بن سلمة([222]):
وإنيّ بِحَمْد اللهِ لا ثوبَ فاجِرٍ لَبِسْتُ ولا مِنْ غّدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
وذكر قتادة بن دعامة السدوسي (ت 117 هـ) أنَّ العرب كانت تصف الرجل، إذا نكث، ولم يف بعهد، بأنَّه دنس الثياب، وإِذا وفّى وأَصلح، قالوا إنّه مطهر الثياب([223]).
وإِذا صحّ هذا التأوُّلُ في بيت غيلان، فالمظنون أنَّه لا يصح في الآية الكريمة، لأنَّ الرسول r لم يكنْ مشتملاً على غدر وخيانة عهد، حتى يُؤْمَرَ بأَمر على سبيل الوجوب.
وصرّح مجاهد بن جبر التابعي ( 104 هـ) بأنَّها كناية عن العمل، فقال في تفسير قوله تعالى:(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): إِن المراد : (عملك فأصلح)([224]). وقال غير الأربعة المذكورين: (كنّى بالثياب عن القلب)([225]). لأنَّ العرب قد كنّت بها عن النفس والقلب، قال امرؤ القيس([226]):
ثيابُ بني عوفٍ طَهارى نقيّةٌ وأَوجُهُهم عند المشاهد غرّان
ومعناه: هم في أنفسهم طاهرون([227]). وقال النابغة الذبياني في هذا المعنى([228]):
كان ابنُ أَشْفَةَ طيــــــبّاً أَثوابه عَفّا شَمائِلُه غزيــــــــــر النّائِل
وقول عنترة([229]):
كَمَّشتُ بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم
أراد: شككت قلبه([230]). وقيل: درعه، وقيل: بدنه([231])، وعلى المعنى الأَول أَوَّلوا قول امرئ القيس أَيضاً([232]):
ِفَإنْ تك قد ساءتك منّي خليقة فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
أَيْ: قلبي من قلبك([233])، أو نفسي من نفسك، ومن الناس من حمل (الثياب) في البيت على الثياب الملبوسة([234]). وروي: أَنَّ الرجل كان يقول لامرأته: ثيابي من ثيابك حرام، كناية عن الصريمة([235]) ، بمعنى: القطيعة.
أمّا ابن قتيبة(ت 276 هـ) فقد جعلها كناية عن الجسم، لأنَّ الثياب تشتمل عليه، وتمثل بقول ليلى الأخليلية وقد ذكرت إبلا([236]):
رموها بأثوابٍ خفافٍ فلا ترى لهــا شَبَها إِلاّ النعام المُنَفرَّا
وذكر الرازي ( ت 606 هـ): أنَّ اللفظ إِذا حمل على معنى الجسد فذلك (لأنَّ العرب ما كانوا يتنظفون وقت الاستنجاء، فَأمِر r بذلك التنظيف)([237]).
وذكر الشريف الرضي (ت 406 هـ) وجها آخر فيها، فقد جعلها كناية عن الأزواج (فكأنه -تعالى- أمره أَنْ يستطهر النساء، أي: يختارهنّ طاهرات من دنس الكفر، ودرن العيب، لأنهن مظانّ الاستيلاد ومضامّ الأولاد)([238]).
بيد أنَّ الرازي قد استبعد هذا التأويل ملاحظاً تتابع الآي. فعلى هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها([239]).