كتاب " الفصل والوصل في القرآن الكريم " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الفصل والوصل في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وقال ابن منظور: " الوصل: ضد الهجران: وخلاف الفصل، وفي التنزيل العزيز:(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ)([15]).
وصل الشيء إلى شيء إذا انتهى إليه وبلغه، قال أبو ذؤيب([16]):
تَوَصَّلُ بِالرُكبَانِ حِيناً، وَتُؤْلِفُ ال
جِوازَ وَيغْشِِِِيهَا الأمَانَ رِبَابُها
... وقال ابن الأعرابي في قوله: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ)([17])" أي: ينتسبون"([18]).
وقال الزمخشري(538هـ)" وهو وصيل فلان: لمواصلة الذي لا يكاد يفارقه...ومن المجاز وصل إلى بني فلان واصل: انتمى: قال الأعشى([19]):
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وائِلٍ
وَبَكْرٌ سَبضتْهَا وَالاً نُوُفُ رَوَاغِمُ
ووصل رحِمَه، وأمر اللّه تعالى بصلة الرحم"([20]).
وجاء في معجم المصطلحات: " وصل" wast: هو في العروض العربي حرف اللين الناشئ من حركة الروى"([21]). وَوَصَل الشيء: لأَمَه، وربطه به، والوصل في الاصطلاح القرّاء: عدم الفصل، وعند أهل المعاني خلاف الفصل، وهو عطف بعض الجمل على بعض، وحرف الفصل عند أهل القوافي واو أو ياء أو ألف أو هاء........
وعند المحدّثين: هو عدم سقوط راو من رواة الحديث ومجيء إسناده متصلاً"([22]). فلفظة الوصل- إذن- تطلق على مدلولات كثيرة منها حقيقية وأخرى مجازية في نحو: التوصيل والاتصال وعدم القطع والإتباع وضدّ التصارم والهجران والانتهاء والبلوغ والانتساب والانتماء وعدم المقارنة واللأم والربط، إلاّ أن هذه المعاني كلها قريبة ومتشابهة وتوحي بشيء واحد هو(الربط)، وهذا المعنى اللغوي هو أساس المعنى الاصطلاحي للفظتي الفصل والوصل كما سنرى، وإن كان يدخل في ميدان أخص وهو العطف الذي يعدّ نوعاً من أنواع الربط في العربية.
الفصل والوصل في اصطلاح البلاغيين
قد يكون من المفيد أن نذكر- قبل البدء بتعريف الفصل والوصل اصطلاحاً بأن أكثر البلاغيين قدموا في الترجمة لهذا الباب ذكر الفصل على الوصل فقالوا: (الفصل والوصل)، لأن الفصل مرجعه إلى عدم العطف والوصل مرجعه إلى العطف"([23]) أو لأن الفصل هو الأصل" والوصل طارئ أي عارض عليه حاصل بزيادة حرف من حروف العطف، لكن لّما كان الوصل بمنزلة الملكة والفصل بمنزلة عدمها، والإعدام إنما تعرف بملكاتها"([24]). فقد بدأ بأغلبهم في التعريف الاصطلاحي بذكر الوصل قبل الفصل، عكس ما في الترجمة، كما سيأتي في التعريف.
عندما سعى علماء البلاغة إلى تحديد مدلول لفظتي(الفصل والوصل) اصطلاحاً، تأثروا إلى حدّ بعيد بما أدى به أصحاب المعجمات من معان لغوية لهاتين اللفظتين، ويتجلى تأثرهم هذا في توافق تعريفاتهم لهما في خطوطها العامة، وإن اختلفت طرائق تعبيرهم تبعاً لتباين اختصاصهم ونظرتهم إلى هذا الموضوع من التخصيص والتعميم، والتوسع في الباب والتضيّيق فيه، ـ أو اختلاف فهمهم
يبدو أن السكاكي(626هـ) هو أول من حاول وضع التعريف الاصطلاحي للفصل والوصل، حيث قال: " مدار الفصل والوصل.وترك العاطف وذكره"([25])، والذي نفهمه من عبارته هذه أنه لم يحصر الفصل والوصل بين الجمل فحسب، بل جعله يشمل المفردات أيضاً، بدليل قوله في (المفتاح)، " أن تمييز موضع العطف من غير موضعه في الجمل...هو الأصل في هذا الفن"([26]). فعندما يجعل الفصل والوصل أصلاً في الجمل فإن هذا لا يعني أنهما يختصان بها اصطلاحاً، بل بالمفردات كذلك، ويلفتنا الزمخشري(538هـ) إلى أن الفصل وصل تقديري خفيّ وأنه أقوى من الوصل الظاهر بحرف العطف، وأن التنبه إلى هذا الوصل الخفيّ باب دقيق من أبواب البيان تتكاثر محاسنه"([27])، وهذا ما يسميه المحدثون(الوصل بغير العطف)([28])، وسنفصل الحديث عنه في موضوع شبه كمال الاتصال ونطبق عليه في الفصل الثالث بإذن اللّه.
وحدّ الخطيب القزويني(739هـ) الفصل والوصل بقوله: " الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه"([29])، والظاهر من كلامه هذا أنه ظنّ أن غير ذلك متروك: ([30])، وعلى هذا بادر شرّاح تلخيصه بعده، غير أن عصام الدين الاسفراييني(951هـ) عّقب على كلام السعد التفتازاني(791هـ)- صاحب المطوّل على التلخيص- بقوله: " وعبارة صاحب المطول مشعرة بأن الفصل والوصل مختصان اصطلاحاً بالجمل، والمقتضيات لهما جارية على المفردات أيضاً.فلا ينبغي التخصيص اصطلاحاً"([31]) لكي لا تكون المفردات بمعزل عن الفن البلاغي.
وقال الطيبي(743هـ) في تعريف الفصل والوصل: " هو ترك العاطف بين الجمل وذكره"([32])، وهذا الحدّ يشبه تعريف السكاكي مع فارق هو أن الأخير قصّر الفصل والوصل على الجمل دون المفردات، بينما السكاكي جعل التعريف بالعطف مطلقاً، وحاول المتأخرون من البلاغيين- من سعيهم لإطلاق دعاوي التجديد والتيسير في الدرس البلاغي إلى إيجاد تعريفات للفصل والوصل أخص من الحدود القديمة وأدق منها، وأكثر تعلقاً بالبلاغة وابتعاداً عن النحو في هذا الموضوع، فيرى عبد الفتاح لاشين أن تعريف الفصل والوصل" يجمل أن يصير على هذا الوضع: الوصل: عطف بعض الكلام على بعض، والفصل: ترك هذا بالعطف"([33])، وهذا بالتعريف يختلف قليلاً عن التعريفات القديمة ذلك لأن لاشين لعله يرى أن الكلام أعم من الجملة لأنه يشمل المفردات والجمل معاً على ما يبدو، بينما يقول التفتازاني في المطول: " إنما قال عطف بعض الجمل على بعض دون أن يقول عطف كلام على كلام ليشمل الجمل التي لها محل من الإعراب وذلك لأنهم وإن جعلوا الكلام والجملة مترادفين لكن الاصطلاح المشهور على أن الجملة أعم من الكلام، لأن الكلام ما يتضمن الإسناد الأصلي وكان مقصوداً لذاته والجملة ما تتضمن الإسناد الأصلي سواء كان مقصوداً لذاته أولا"([34]).
ويحسم الرضي(686هـ) الفرق بين الجملة والكلام بقوله: " فكل كلام جملة ولا ينعكس"([35]) والسبب في ذلك أن الكلام شرطه الإفادة، بخلافهما"([36]) وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الكلام أخص من الجملة والجملة أعم منها، لذا نجد أن تعريف القزويني أشمل من تعريف لاشين، ذلك أن القزويني اختار "التعبير ببعض الجمل على الكلام لتدخل الصفة والصلة ونحوهما مما لا يشمل الكلام، بناء على أنه لابد أن يكون مقصوداً لذاته"([37]).
حاول بعض البلاغيين المتأخرين والمحدثين التركيز على الموضوع أكثر، فحدّوا الفصل والوصل بقولهم: " الوصل عطف جملةِ على أخرى بالواو والفصل ترك هذا العطف بين الجملتين، والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى، ......ومن هذا يعلم أن الوصل جمع وربط بين جملتين(بالواو خاصة) لصلة بينهما في الصورة والمعنى، أو لدفع اللبس، والفصل ترك الربط بين الجملتين أما لأنهما متحدتان صورة ومعنى، أو بمنزلة المتحدين، وأما لأنه لا صلة بينهما في الصورة أو في المعنى"([38])، ولما كان الوصل نوعاً من الربط والفصل عدم الربط يحسن بنا الوقوف عند مفهومه، فالربط: " ما يحصل من ائتلاف وصلة واتحاد وتماسك في أجزاء الكلام والجملة سواء أكانت هذه الأجزاء عناصر أساسية في بنائهما أم غير أساسية، وذلك بوسائل معنوية أو لفظية"([39]).
فباب الفصل والوصل في علم المعاني يدخل في باب الربط في علم النحو.
ويعرّف المراغي الفصل والوصل اصطلاحاً بقوله: ".... هو العلم بمواضع العطف أو الاستئناف أو التهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة إليها"([40]).
ويقول د . هادي الفضلي في حدّ الفصل: " هو الاستئناف بين الجملتين"([41])، وفي الوصل: " هو العطف بين جملتين للتشريك بينهما في الإعراب أو الحكم"([42])، ومهما يكن من معنى الفصل والوصل اصطلاحاً، فإن ملاك الأمر فيهما" حسن استعمال حرف من حروف المعاني، يضم به أجزاء الكلام بعضها إلى بعض، حيث يكون ذلك مطلوباً من اجل أداء المعنى على أحسن وأتم صورة"([43]).
وباب الوصل في البلاغة العربية يتمثل في باب العطف في النحو، والعطف الذي نقصده هو عطف النسف وليس عطف البيان، ولذلك يتحتم علينا معرفة معنى عطف النسفٌ، فالعطف لغة: الميل إلى الشيء والانصراف عنه"([44])، بحسب الحرف الذي يتم تعدي الفعل به"([45])، أما ما يتضمن الفعل(عطف- يعطف- عطفاً) من معنى الشفقة فإنه يجري- كما يقول الراغب الأصفهاني-" على سبيل الاستعارة، وفي هذه الحالة يجب أن يتعدى الفعل بعلى يقال: ظبية عاطفة على ولدها، فإذا عدّى الفعل ب(عن) فإنه يكون على الضد: نحو عطفت عن فلان بمعنى ملت عنه وانصرفت عنه"([46]).
أما العطف اصطلاحاً كما يعرّفه ابن عصفور(669هـ)" هو حمل الاسم على الاسم، أو الفعل على الفعل، أو الجملة على الجملة، بشرط توسط حرف بينهما من الحروف الموضوعة لذلك"([47])، كما أن الفصل والوصل من الموضوعات التي يلتقي فيها علم المعاني بمعاني النحو، ذلك لأن" علم المعاني من المصطلحات التي أطلقها البيانيون على مباحث بلاغية تتصل بالجملة وما يطرأ عليها من تقديم وتأخير، أو ذكر وحذف، أو فصل ووصل..."([48])، وكان عبد القاهر الجرجاني(471هـ) قد سمى الموضوعات نفسها(معاني النحو) أو(النظم)، والنظم عنده لا معنى له" غير توخي معاني النحو"([49])، وعلى نظريته هذه بنى عبد القاهر" تصوره البلاغي كلّه، ونظر إلى إعجاز كتاب اللّه، واللفظ والمعنى والتصوير الأدبي من خلالها، وجمع بين البناء والنظم والتركيب، والصياغة والتصوير والجمال في فكرة واحدة هي النظم"([50])، وهو "يقصد بالنظم ما يطلق عليه الغربيون(علم التراكيب) وهو عندهم(أهم أجزاء النحو)([51])، لأن مجال النحو هو الجملة الواحدة(التركيب) في حين يطلقون على البلاغة" علم خصائص الكلام"([52])، أي الجملة أو الجمل، وعلى الرغم من اعتقادنا بصحة الرأي القائل يكون النحو صلب البلاغة، إلا أننا نزعم كأنه ليس من المجازفة في شيء أن نقرر أن البلاغة أعلى وأشمل منه، وتصح تسميتها(النحو العالي)، أو(منهج النحو الجمالي) الذي يجمع بين علمي النحو والبلاغة ذلك لأن شرط النحو صحة التركيب، و" شرط البلاغة صحة التركيب التي تترتب عليها صحة المعنى، وهنا يتلاقى النحاة مع المناطقة"([53])، بتوسط علم المعاني، ذلك لأن البلاغة تمييز عن نسبة الخواص في الكلام، و" أن خواص التراكيب تنقسم إلى ما هو خواصها بإفادة وهي المبنية في علم المعاني، وإلى ما هو خواصها بدلالة وهي المبنية في علم البيان، وإلى ما هو خواصها تبييناً وتزييناً وهي المبنية في علم البديع"([54]).
فالبلاغة تلتقي بالنحو في الوصل والعطف([55])، من جهة، وتلتقي بالمنطق من جهة أخرى في الموضوع نفسه، إذ يؤكد(برستلي) في حديثه عن علاقة العطف في الجمل وارتباطه بالمنطق" أن هذه العلاقة بين الجملتين هي علاقة العلة ونتيجة العلة، وهكذا تلتقي البلاغة والمنطق، ولا عيب في ذلك، فقد سعى العرب قديماً بالبلاغة بعلم البيان، وليس المنطق إلا بياناً"([56]).