كتاب " الفصل والوصل في القرآن الكريم " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الفصل والوصل في القرآن الكريم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
والذي نستخلصه من هذا الحديث عن المفهوم الاصطلاحي للفصل والوصل عند القدماء والمتأخرين والمحدثين أن تعريفات البلاغيين المحدثين لهذا الباب أدق وأكثر قرباً من روح البلاغة العربية وتعلقاً بها من سابقيهم من البلاغيين لأنهم حاولوا التركيز على الوصل بالواو دون غيرها من حروف العطف في إطار سعيهم لتخصيص هذا الموضوع بالبلاغة وأبعاده من النحو لإعادة جانب الاختصاص لكل علم، وبناء على هذا فإن التعريف الاصطلاحي الذي نرتضيه لأسلوب الفصل والوصل هو أن" الوصل عطف جملة على أخرى بالواو، والفصل ترك هذا العطف"([57]).
ولما كان الموروث اللغوي لا يشير إلى وجود دراسة واضحة لعلاقات الجمل التي لا محل لها من الإعراب، " إذن فليمض بحث الفصل والوصل قاصداً إلى الجمل التي لا محل لها من الإعراب، والتي تربط بالواو خاصة"([58])، ومع التعرض للموضوعات التي من شأنها تيسير هذا الأمر والتي لها وشائج معه، أو يمت إليه بصلة ما.
تطور دراسة أسلوب الفصل والوصل في البلاغة العربية
لقد نشأت فنون البلاغة العربية ممتزجة مع بقية العلوم أول الأمر، ومن ثم" أخذت الملاحظات البلاغية تتطور عند العصر الجاهلي وتنمو، وتأخذ طريقها في كتب اللغويين"([59])]أمثال سيبويه(180هـ)[ والفرّاء(207هـ) وأبي عبيدة معمر بن المثنى(207هـ)، وعلماء الكلام: كالجاحظ(255هـ) والرماني(384هـ) والنقاد: كالآمدي(370هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني(392هـ) وأبي هلال العسكري(395هـ)، وغيرهم.
إن أسلوب الفصل والوصل بالمعنى الاصطلاحي الذي شاع في كتب المتأخرين من البلاغيين موضوع قديم في العربية، وذلك لأن التحرّي الدقيق لأمهات كتب اللغة والأدب- على الرغم من كونه مجهداً- إلاّ أنه يؤكد لنا أن لهذا الأسلوب جذوراً وسوابق في هذه الكتب، فنجد إمام النحاة سيبويه في كتابه الشهير الذي يمزج فيه بحوث البلاغة بالنحو" يعرض لبعض الخصائص الأسلوبية التي عني بها فيما بعد(علم المعاني) مثل: التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والحذف"([60])، كما تحدث في مواضع من كتابه" عن لون بلاغي آخر هو الفصل والوصل كما نعرفه بصفة عامة أو شبه كمال الاتصال كما نعرفه بصفة خاصة"([61]).
ولا يخفى أن سيبويه لم يذكر هذا المصطلح البلاغي لا باسمه ولا بموضوعاته فذلك لم يكن معهوداً في زمنه، " وإنما عرف فيما بعد على يد الفرّاء، ولكن الذي ذكر سيبويه، هو ما يفيد شبه كمال الاتصال وإن لم يصرّح باسمه"([62]).
فمثلاً في باب: (بدل المعرفة من النكرة، والمعرفة من المعرفة، وقطع المعرفة من المعرفة مبتدئة، يقول" أما بدل المعرفة من النكرة فقولك: (مررت برجل عبد الله)، كأنه قيل له: بمن مررّت؟ أو ظّن أنه يقال له ذاك، فأبدل مكانه ما هو أعرف منه........وكذلك قول الشاعر([63]):
وَلَقَدْ خَبَطْنَ بيُوُتَ يَشْكُرَ خَبْطَةً
أَخْوَاُنَا وَهُمْ بَنُو الأعْمَامِ
كأنه حين قال: خبطن بيوت يشكر، قيل له: وما هم؟ فقالوا: أخوالنا وهم بنو الأعمام.....وتقول: مررت برجل الأسد شدة، كأنك قلت: " مررت برجل كامل، أردت أن ترفع شأنه وإن شئت استأنفت، كأنه قيل له: ما هو؟"([64]) .
ويتحدث في باب(ما لا يعمل في المعروف إلاّ مضمراً) عن هذا الأسلوب أيضاً في تقدير السؤال والإجابة عنه، يقول: " أما قولهم: نعم الرجل عبد الله، وعبد الله نعم الرجل، كأنه قال: نعم الرجل، فقيل له: من هو ؟ فقال عبد الله، وإذا قال: عبد الله فكأنه قيل له ما بشأنه ؟ فقال: نعم الرجل"([65]).
من هذا يتبين أن سيبويه قد ضمّن الجملة الأولى سؤالاً، وجعل الجملة الثانية جواباً لهذا السؤال المقّدر، بل نصّ على أن الجملة الثانية استئناف، وهذا أحد مواضع الفصل، ويسمى هذا النوع(شبه كمال الاتصال) أو يسمونه(استئنافاً).
وقد تناول سيبويه في كتابه أيضاً" مسألة على جانب من الأهمية....وأعني بذلك ما يعبر عنها البلاغيين بكمال الانقطاع بين الجملتين إذا اختلفتا خبراً وإنشاءً"([66]).
وجاء بعده الفرّاء(207هـ) فعرض في كتابه(معاني القرآن) لموضوع الفصل والوصل وكان فيه أكثر وضوحاً من سيبويه"([67])، وأقرب إلى الروح العلمية منه.
ويمكن القول- بعد البحث الدقيق- أننا استطعنا أن نعثر في(معاني القرآن) على شواهد وتعقيبات تؤكد أن الفرّاء قد تناول الفصل والوصل ونصّ! على ذلك في أكثر من موضع، بل إن بعض الآيات القرآنية التي لاحظ أنها تأتي على سبيل الانفصال قد دارت على ألسنة البلاغيين وكتبهم فيما بعد، مثل قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)([68])، وفي قوله تعالى:(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)([69])، فكلمة " يذبّحون" جاءت " مرة بالواو ومتصلة بما قبلها، وأخرى بدون الواو ومنفصلة عما قبلها....فمعنى الواو انه يسهم العذاب غير التذبيح، كأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح، ومعنى طرح الواو: كأنه تفسير لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملاً في كلمة ثم فسّرته فاجعله بغير الواو وإذا كان أوله غير آخره فبالواو"([70]). ومن هذا نجد أن الفرّاء يفسر لنا" الفرق بين الأسلوبين، أسلوب الفصل وأسلوب الوصل في حديث صريح واضح ليس فيه ولا خفاء"([71]). ونراه في موضع آخر يقول في قوله عزّ من قائل:(يَلْقَ أَثَاماً)([72])، فالآثام فيه نية العذاب قليلة وكثيرة، ثم فسره بغير الواو فقال: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ([73])، ألا ترى أنك تقول: عندي دابتان بغل وبرذون، ولا يجوز عندي دابتان وبغل وبرذون، وإننا نريد تفسير الدابتين بالبغل والبرذون، ففي هذا كفاية عما نترك فقس عليه ([74]).
فمذهب الفرّاء في ذلك أن الجملة إذا كانت بياناً للأولى فإن الواو تطرح وهذا ما سماه البلاغيون" كمال الاتصال" فالذبح هنا تفسير للعذاب وتوضيح له. ولا يقع حرف العطف بين التفسير والمفسر: أما إذا كان المراد بالكلام الثاني غير الأول يكون محل الوصل وتذكر الواو باعتبار أن الذبح شيء غير سوم العذاب ([75]).
وقد استفاد المتأخرون من هذه الآية كشاهد على هذا الموضوع واستقوا، كلامهم من التفسير الرائع لحديث الفرّاء عن الفصل والوصل، وأداروا هذا التفسير في كتبهم وبنوا عليه لآرائهم، ومع أن الفرّاء لم ينص على تسمية مصطلح الفصل والوصل صراحة- ويبدو رأيه كأنه ملاحظة عرضية- إلا أن هذا ليس هو الموضع الوحيد الذي تناول فيه الفرّاء الفصل والوصل بل في موضع آخر من كتابه نصّ على هذا المصطلح.
ومن ذلك ما ورد في النظم المعجز: (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)([76])، فلاحظ الفرّاء أن الواو قد أسقطت عن" قال أعوذ بالله"، ذلك " لأنه جواب يستغني أوله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك ؟ فيقول القائل: قال: كذا وكذا، فكأن حسن السكوت يجوز به طرح الفاء"([77])وهذا كثير في رؤوس الآيات في القرآن الكريم، ومن ذلك أيضاً قوله عزّ شأنه حكاية عن فرعون:(أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)([78])، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى في التعبيرات القرآنية.
ومن هذا يتبين لنا بوضوح أن الفرّاء قد أطلق مصطلح الفواصل على رؤوس الآيات المنفصلة عما قبلها، إما إذا كانت الآية واقعة جواباً لسؤال مقدّر فإنها تنفصل عما قبلها أيضاً، كما يفصل الجواب عن السؤال وهذا مما سماه المتأخرون يشبه كمال الاتصال"([79]).
نستشف مما سبق من الكلام أن الفضل الأول في نشأة البلاغة كان للنحاة مع علمنا بأن الأبواب البلاغية كانت أول الأمر لا تعدو أن تكون ملاحظات عابرة ونظرات متناثرة من هناك وهناك، ومختلطة بالمباحث النحوية، لاسيما أسلوب الفصل والوصل الذي" ربطه عبد القاهر بباب العطف عندما نربط البلاغة بمعاني النحو وجعل النظم توخياً له"([80]). وما لا لبس فيه هو أنه" ليست معاني النحو إلاّ علم المعاني"([81]) الذي أطلقه السكاكي(626هـ) فيما بعد على موضوعات بلاغية متعددة أحدها الفصل والوصل.
أما الجاحظ(ت 255هـ) فقد اكتفى بنقل مصطلح الفصل والوصل من الفرس في معرض حديثه عن تعريف البلاغة لدى الاسم حين سئل أحدهم" ما البلاغة ؟ قال: معرفة الفصل من الوصل"([82]) كما بيّنا سابقاً، إلاّ أن الجاحظ لم يعقب على هذا بالقول، ولم يتناوله بالشرح أو التوضيح أو بيان الغرض المقصود منه، لذلك فإن هذا المصطلح قد جاء على لسان الجاحظ بشكل غامض، وبقي دون نقد أو تحليل، ذلك لأن عناية الجاحظ- كما يرى د. أحمد مطلوب- " بالقضايا الأدبية والنظرة الفنية حالت دون ذلك"([83]).
ويبدو أن الجاحظ قد اغفل هذا الموضوع لأن علوم البلاغة كانت مختلطة مع علوم اللغة والأدب ولم تكن مفصولة عن بعضها بعد كما ذكرنا في مكان آخر من البحث ، ولم يتم الفصل بين البلاغة وهذه العلوم إلاّ على يد عبد القاهر الجرجاني والسكاكي(626هـ).
إن ذكر الجاحظ لمصطلح الفصل والوصل بالاسم الصريح حدا ببعض الباحثين المتأخرين([84]) إلى الاعتقاد أن أول حديث عن هذا الموضوع عثر عليه عند الجاحظ يقول د. كامل الخولي: " ولا نجده- أي الحديث عن الفصل والوصل- فيما وصل إلينا من مؤلفات القرن الثاني التي تعرضت لبعض المباحث البلاغية كمجاز القرآن لأبي عبيدة، ومعاني القرآن للفرّاء، وأول حديث عن الفصل والوصل نجده عند الجاحظ"([85]).
ويرى د. عبد الفتاح لاشين على هؤلاء أن في هذا الحكم إغفالاً شديداً لجهود سيبويه والفرّاء بل إجحاف بحقهما لأنهما أتيا بالصور المنطوية تحت ما يعرف بالفصل والوصل"([86])، بينما الجاحـظ قام بنقل الاصطلاح من غير بيان المقصود منه