أنت هنا

قراءة كتاب الحكمة العطائية شرح و تحليل - المجلد الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحكمة العطائية شرح و تحليل  - المجلد الأول

الحكمة العطائية شرح و تحليل - المجلد الأول

كتاب " الحكمة العطائية شرح و تحليل  - المجلد الأول " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدرعن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 7

ثم إن هذه المحبة الراسخة تلعب دوراً كبيراً في طرد محبة الأغيار من القلب، أو في تحجيمها وحصرها في زاوية ضيقة من الفؤاد الذي غدا جلّه ساحة لمحبة الله عز وجل وتجلياته. فتذوب في ضرام هذا الحب عصبيته للذات والمذهب ويتراجع سلطان أهوائه التي كانت مهيمنة على نفسه، وتذبل مشاعره الغريزية التي تتحكم بكيانه وتصرفاته. ويغدو عندئذ هذا الإنسان مظهراً للمؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 2/165] .

فهل تتصور أن يقبل هذا المحب إلى صلاته دون أن يكون محسناً في أدائها، أي دون أن يشعر بأن الله يراه إذ يناجيه وإذ يركع ويسجد بين يديه؟ أم هل تتصور أن تأتي مشاغله الدنيوية وأهواؤه الغريزية فتحجبه عن تذكر الله ومراقبته وتنسيه نجواه لله في صلاته؟

لا تتصور أن يكون شأن هذا العبد المحب على هذا المنوال، ما دام أن هذا السلك الذي حدثتك عنه قد امتدّ نابضاً بذكر الله عز وجل ما بين مركز الإيمان في العقل ومركز الإسلام في الأعضاء والكيان.

* * *

والآن، من ذا الذي يجهل أن هذا الإحسان الذي دعا إليه رسول الله علية الصلاة والسلام هو لباب الإسلام، بل هو الجامع المشترك بين الإيمان والإسلام؟!.. وهل الإسلام بدون هذا الإحسان إلا كجسد لا روح فيه، أو كتمثال لا حراك فيه؟ وهل يتعايش الازدواج بين شكل الإسلام وألفاظه، والاستغراق في حمأة الشهوات والأهواء، والخضوع للأغراض والعصبيات، في الواقع المعيشي والمرئي في حياة كثير من الناس، إلاّ لأن صلة ما بين العقل المؤمن والكيان المسلم أو المستسلم غائبة أو مقطّعة، لم يمتدّ بينهما سلك الإحسان الذي لا سبيل إليه إلا عن طريق الإكثار من ذكر الله وتذكره بالنهج الذي حدثتك عنه؟!..

وإذا ثبت أن السبيل إلى ذلك هو أن يأخذ المسلم نفسه بالإكثار من ذكر الله الذي هو سلّم

الوصول إلى محبة الله، والذي هو المدخل الذي لا بدّ منه إلى تزكية النفس، فهل في المسلمين من يُهَوِّنُ من شأن هذا العلاج، فضلاً عن أن ينكره ويدفع به إلى قائمة البدع والمستحدَثات.

وكيف يتأتّى للمسلم الصادق في إسلامه أن ينكره، والقرآن مليء بالآيات الآمرة بالإكثار من ذكر الله والمحذرة من الاستسلام للغفلات، وبالآيات الآمرة بالسعي إلى تزكية النفس وتطهيرها من أوضارها التي سماها الله «باطن الإثم».

فإذا جاء من يرشد تلامذته ومريديه إلى اتباع هذا السبيل، ينبههم إلى أهمية السعي إلى تزكية النفس عن طريق نقل الإيمان بالله من مجرد قناعة أو يقين مغروس في العقل إلى عاطفة من الحب والخوف والتعظيم تهيمن على القلب، ونظّم لهم إلى ذلك منهاجاً من الأوراد والمأثورات، يأخذون بها أنفسهم، ليخرجوا بذلك من تيه الغفلة إلى صعيد الذكر؛ فالمشاهدة بعين البصيرة، وليتحققوا عندئذ بالإحسان الذي يجعلهم أثناء قرباتهم وعباداتهم كأنهم يرون الله.. أقول: إذا جاء من يرشد تلامذته ومريديه وإخوانه إلى هذا النهج، أفيكون قد أساء صنعاً من حيث إنه نفذ أوامر الله وتعاليم رسول الله في حق نفسه أولاً، وفي حق إخوانه وأصحابه ثانياً؟!..

ومن هم الذين عناهم بيان الله بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 41/33] ، والذين عناهم رسول الله علية الصلاة والسلام بقوله: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمْر النعم» إن لم يكن هؤلاء المرشدون الناصحون في مقدمتهم؟

ثم إذا جاء من يطلق على الالتزام بهذا النهج الرامي إلى هذا الهدف التربوي القدسي، اسم (التصوف) أو (علم السلوك) أو (فنّ التزكية) أفتكون هذه التسمية مزهقة لشرعية المضمون، موجبة لإبطال الحق، وإحقاق الباطل؟!.. على أن بوسعك أن تلتقط المنهج والمضمون وتلقي الاسم والمصطلح وراء ظهرك، أو حتى إن -شئت- تحت قدمك، وبذلك تصلح ما ترى أنه خطأ، وتقوّم ما تعتقد أنه معوج، المهم ألاّ تأخذ الجار بظلم الجار، وتعاقب المسمى البريء بجريرة الاسم.

* * *

فإن جاء من يقول: ولكن هذا النهج الإرشادي تسرب إليه مع الزمن كثير من البدع التي لا يقرها قرآن ولا سنة، قلنا له: أنت مشكور على غيرتك على شرع الله ألاّ يتسرب إليه دخيل وألاّ يختلط به ما ليس منه.

ولكن الغيرة على الحق لا تتمثل في أن تعود فتأخذ الجار بظلم الجار، وفي أن تزهق الحق من أجل الباطل الذي تسرب إليه.

إن استنكار المشروع من سبل تزكية النفس وبلوغ درجة الإحسان، من أجل البدع التي تسربت

إليه، هو دعوة غير مباشرة إلى هذه البدع، وإغراء خفي بقبولها وبالتعامل معها. ولعل من أهم أسباب انتشار هذه البدع وعكوف فئات من الناس عليها باسم التصوف ونحوه، هذا اللون من الاستنكار الذي يهدف إلى هدم الدار كلها، من أجل أرائك غير مريحة فيها!!..

حدّد البدعة التي عثرت عليها ضمن كلٍّ من الطاعة المشروعة، ثم ركز إنكارك عليها، مدافعاً عن بقية الكل، داعياً إليه، منبهاً إلى أهميته، يذوي عندئذ العشب الدخيل، والغصن الطفيلي الضار، ويزهو النبات الأصيل صافياً عن الأوضار والشوائب.

إن المسلمين اليوم في ظمأ شديد إلى العاطفة الدينية التي حرمتهم منها قسوة المتطلبات الدنيوية وفتنة المغريات المستشرية.. فإن أتيح لهم من يهديهم إلى مواردها الشرعية الصافية عن شوائب البدع، فلسوف يركنون إليها ويسعدون بها، ويصلون منها إلى ريٍّ لا غصص فيه. وإن لم يجدوا أمامهم إلا من يصدّهم ويردّهم ويحذرهم من هذه الموارد العاطفية التي داخلتها البدع، دون أن يرشدوهم إلى أي بديل، فلسوف يستجيبون لنداء ضروراتهم الملحة، ويعرضون عن التحذيرات التي لا بديل عنها إلا الظمأ القتّال.

ولا شك أن توجيه هؤلاء الظمأى إلى حِكَم ابن عطاء الله وأمثالها، إنما هو توجيه إلى مورد لعاطفة إسلامية صافية عن الشوائب، بعيدة عن عكر البدع والمنكرات، ولسوف توصلهم إن هم أخذوا أنفسهم بنصائحها إلى صعيد باسق من محبة الله وتعظيمه والمخافة منه والرضا عنه والثقة به والتوكل عليه. وهل يصلح إيمان بالله بدون هذا كله؟

والواقع المرئي أمامي خير شاهد على ذلك.. عندما استخرت الله في تدريس حكم ابن عطاء الله في لقاء عام في المسجد، ظننت أن الجمع الكثيف والكثير الذين تعودوا على حضور دروسي سيتفرقون ويعرضون.. زهداً منهم في هذه البحوث التي تنعت على ألسن كثير من الناس بالتصوف، ولكني فوجئت بنقيض ذلك، لقد ازداد الجمع المواظب تعلقاً وثباتاً، وأقبلت من ورائهم فئات شتى من سائر المشارب والاتجاهات والطبقات، وفيهم من لم يكن ملتزماً بسلوك إسلامي قط.. ساقهم جميعاً الظمأ العاطفي الذي أشعرتهم به الفطرة الإيمانية التي لم يحرم الله منها أحداً من عباده. وكان من حسن الحظ أن المورد الذي اجتمعوا عليه مورد شرعي سلفي سليم خال من الشوائب، وحسبك أنه المورد الذي تمثل في حكم ابن عطاء الله.

فليتق الله أولئك الذين ينتقمون من البناء كله من أجل خطأ في تصميم إحدى نوافذه، أو يحرّمون الطعام الطاهر الطيب من أجل استنكارهم لاسمه!!..

وأعود في نهاية هذه المقدمة، لأذكّر بالعهد الذي قطعته على نفسي، ألاّ أتعامل فيما قد فتح الله عليّ من شرح (الحكم) إلا مع المضامين والمسميات، وألاّ أعرِّج على اسم التصوف في قليل أو كثير.

والله المسؤول أن يهبنا من جذوة الإخلاص لوجهه، ومن صدق التوجه إلى معالجة أمراضنا النفسية الوبيلة المهلكة، ما يبصّرنا بضرورة سلوك النهج الذي ذكرته في هذه المقدمة، والذي ستتجلى تفاصيله في الصفحات التالية، بفضل الله وتوفيقه.

الصفحات