كتاب " الحكمة العطائية شرح و تحليل - المجلد الأول " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدرعن
أنت هنا
قراءة كتاب الحكمة العطائية شرح و تحليل - المجلد الأول
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هذه هي العقيدة التي ينبغي أن يصطبغ بها كل إنسان مسلم.. وعلى هذا درج السلف الصالح رضوان الله عليهم.
قد يقول قائل: بل الظاهر أن الثواب الذي نستحقه إنما هو على العمل الصالح الذي عملناه.
ولكننا لو تأملنا، وأمعنا النظر، في علاقة ما بين العبد وربه، لأدركنا أن الأمر ليس كذلك.
ما معنى قولك: إن الله إنما يثيبني بعملي.. وإنما يدخلني الجنة بعملي..؟ معنى هذا الكلام أن الله عز وجل رصد قيمة للجنة، لا تتمثل في دراهم أو في سيولة مالية، وإنما تتمثل في العبادات والطاعات والابتعاد عن المحرمات. فإن فعلت الطاعات واجتنبت النواهي، فقد بذلت الثمن، ومن ثم فقد أصبحت مستحقاً للبضاعة التي اشتريتها!.. عندما تقول: إنما أثاب بالعمل الذي قدمتُه، فهذا هو معنى كلامك.. فهل الأمر هكذا في حقيقته؟.. أي هل إنك عندما تؤدي الأوامر التي طلبها الله عز وجل منك تصبح مستحقاً للجنة ومالكاً لها بعرق جبينك، تماماً كما يستحق الذي اشترى بضع دونمات من أرض، بقيمة محددة دفعها لصاحبها الذي عرضها للبيع؟!.. لو تأملت لرأيت أن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً.. أنا عندما أدفع قيمة هذا البستان نقداً كما طلب البائع فأنا أمتلك بذلك هذا البستان بدون أي مِنَّةٍ له عليّ، وبطريقة آليّة يقضي بها القانون. ومن حقي أن أقول له: اخرج من أرضي فقد دفعت لك قيمتها كاملة غير منقوصة.
ذلك هو شأن علاقة العبد مع العبد.. أما عندما يأمرك الله سبحانه وتعالى بالطاعات التي ألزمك بها، وينهاك عن المحرمات التي حذرك منها، ويوفقك الله فتؤدي الواجبات وتبتعد عن المحرمات، فإن الأمر مختلف هنا بشكل كلي.. من الذي أقدرك على الصلاة التي أديتها؟ من الذي أقدرك على الصوم الذي أديته؟.. من الذي شرح صدرك للإيمان؟ أليس هو الله عز وجل؟ وصدق الله القائل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 49/17] .
إذن هنالك فرق كبير بين الصورتين. من الذي حبّب إليك الإيمان وكرّه إليك الكفر والفسوق والعصيان؟ من؟ هو الله سبحانه وتعالى.. من الذي شرح صدرك وأقدرك على أن تأتي إلى بيت من بيوت الله فتحضر صلاة الجماعة ثم تجلس فتستمع إلى ما يقربك إلى الله سبحانه وتعالى؟ من؟ هو الله سبحانه وتعالى.. إذن فما يخيل إليك، من أن الطاعة ثمن دفعته من ملكك مقابل امتلاكك لجنة الله تعالى قياساً على الذي دفع أقساط الثمن من ماله الحر لكي يمتلك البستان، قياس مع الفارق الكبير.
إذن فلا يجوز أن تتصور أنك تستحق (تأملوا التعبير الدقيق الذي أستعمله: لا يجوز لك أن تتصور أنك تستحق) جنة الله سبحانه وتعالى وثوابه، لأنك قد قدمت له ما قد طلب، ولأنك قد فعلت ما قد أوجب، وابتعدت عما حرم، لا يجوز لك أن تعتقد هذا. ولو اعتقدت ذلك لكان نوعاً من أخطر أنواع الشرك.
ذلك لأن هذا الاعتقاد يعني أنك تؤمن بأن صلاتك بقدرة ذاتية منك، وأنك تفضلت بها على الله، وأن طاعتك التي أمرك الله عز وجل بها بحركة من كيانك، وكيانك ملك ذاتك، وقدرتك ملك ذاتك، فعملك أنت المالك له، وقدراتك أنت مبدعها وموجدها، والباري لا علاقة له بها. إذن فكأنك فيما تتخيل قدمت له هذه الطاعات على طبق، وقلت: ها هي ذي أوامرك قد أنجزتها كما تريد، بقدرة وطاقة ذاتية مني فأعطني الجنة التي وعدتني بها.
وهكذا تصبح العملية عملية بيع وشراء.. أعطيتك القيمة ومن حقي إذن أن أطالبك بالثمن!.. هل هذا هو منطق ما بين العبد وربه؟ أين أنت إذن من واقع عبوديتك لله؟.. أين أنت من الكلمة القدسية التي كان يعلمها رسول الله علية الصلاة والسلام أصحابه: «لا حول ولا قوة إلا بالله»؟. أين أنت من اليقين الإيماني الذي لا ريب فيه بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد؟.. من الذي يخلق أفعالنا نحن العباد؟ أظن أن العهد لم يطل بنا، في بيان الحق الذي هو عقيدة السلف الصالح، وهم أهل السنة والجماعة الذين يمثلهم الأشاعرة والماتريديون.. إذن فأنا عندما أحمد الله سبحانه وتعالى بلساني؛ ينبغي أن أشكر الله على أن حرك لساني بهذا الحمد.. وإذا قمت من جوف الليل لأصلي، ينبغي أن أثني على الله أنه وفقني للقيام بين يديه.. لولا حبه لي، لولا عنايته بي، لولا لطفه بي، لغرقت في الرقاد، ولما أكرمني بهذا الوقوف بين يديه. ولقد حدثتكم مرة بقصة فتاة صالحة كان تخدم في أسرة، وذات ليلة قام رب الأسرة من جوف الليل فرأى الفتاة تصلي في زاوية من البيت، وسمعها تقول وهي ساجدة: اللهم إني أسألك بحبك لي أن تسعدني.. أن تعافيني أن تكرمني.. إلى آخر ما كانت تدعو به. استعظم الرجل صاحب البيت كلامها هذا، وانتظرها حتى إذا سلَّمت من صلاتها، أقبل فقال لها: ما هذا الدلال على الله؟!.. قولي: اللهم إني أسألك بحبي لك أن تسعدني وأن تكرمني وأن... قالت له: ياسيدي لولا حبه لي لما أيقظني في هذه الساعة، ولولا حبه لي لما أوقفني بين يديه، ولولا حبه لي لما أنطقني بهذه النجوى..
لاحظوا أيها الإخوة: هذا هو التوحيد الذي ينبغي أن يصطبغ به كل منا، كيف تَـمْتَنُّ على الله بصلاتك وهو الذي وفقك إليها؟!..
فهذا هو المبدأ الذي عناه صاحب جوهرة التوحيد وكل علماء العقيدة عندما قالوا: «فإن يثبنا فبمحض الفضل» ثم قالوا: «وإن يعذب فبمحض العدل».
قد يخطر هنا في البال السؤال التالي: إذا كان الأمر كذلك، فما معنى قول الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 16/32] ، ولقد كرر الله تعالى هذا الكلام كثيراً في بيانه القديم؟ وأقول لكم في الجواب ما يزيدكم حباً لله، ويزيدكم انغماساً في مشاعر العبودية له:
إن هذا الكلام قرار من طرف واحد هو الله عز وجل، لا من طرفين متعاقدين.. يوفقك الله للعمل، ويلهمك السداد، وتجأر على بابه بالدعاء: تقول: اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك، ناصيتي بيدك، تصرفها كما تشاء، فخذ بها إلى طريق السعادة والرشاد. فيستجيب الله دعاءك، ويشرح صدرك للخير، ويوفقك للعمل الصالح، ثم يقول لك يوم القيامة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 16/32] ، فهل هذا الكلام منه عز وجل يعني تنفيذاً لعقد رضائي جرى بينك وبينه، كالعقد الذي يكون بين البائع والمشتري؟!..
لا، معاذ الله. إنه عز وجل عندما جعل عملك سبباً لدخول الجنة إنما فعل ذلك تفضُّلاً منه وإحساناً.
ولو أنك أبيت إلا أن تتصور أن المسألة بين الله وعباده معاوضة حق بحقٍ، وحملت هذه الدعوى معك إلى يوم القيامة، قائلاً لله تعالى: إنني أستحق الجنة والخلود فيها بأعمالي المطلوبة التي أنجزتها، وشاء الله عز وجل - بناء على دعواك هذه - أن يجرّك إلى الحساب الدقيق، لن يبقى لك عندئذ أي حق مما تدعيه. ولسوف يضمحلّ ذلك كله تحت سلطان عبوديتك لله وافتقارك إلى عونه وتوفيقه.
ولعل أقرب مثال إلى ما أقول ما ينهجه الوالد مع ابنه عندما يشجعه على الكرم وعمل الخير، يقول لابنه: إن أعطيت ذلك الفقير مبلغاً من المال فلسوف أكرمك بهدية، ويأتي الأب بالمال فيضعه خفية في جيب الطفل، ويستجيب الولد لطلب أبيه متأملاً ما وعده به من الإكرام، فيعطي الفقير مبلغاً من المال الذي دسه والده في جيبه. فيستبشر والده بذلك، ويعبر عن إعجابه بالكرم الذي اتصف ابنه به، قائلاً: لقد قمت بعمل إنساني عظيم، ولا شك أنك تستحق بذلك أجراً كبيراً ومثوبة عظمى.
من الواضح أن هذا عمل تربوي لبق يأخذ به الوالد ابنه. ولا ريب أن الولد سيعلم فيما بعد، أن المال الذي كان في جيبه إنما هو مال أبيه، وأن الإكرام الذي تلقاه منه باسم المكافأة والمجازاة على عمله الطيب، إنما هو لون من التحبب إليه ابتغاء دفعه إلى مزيد من هذا العمل الإنساني الجميل. فقول الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 16/32] ليس إلا من هذا القبيل.