كتاب " دور الدين في المجتمع " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب دور الدين في المجتمع
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وظائف الدين في المجتمع
اقتصر النشاط البحثي في مجال الدين في البداية على رجال الدين الذين وجهوا اهتماماتهم الرئيسة نحو شرح النصوص، وتبسيطها، وتبيان الإجراءات الخاصة بتأدية الفرد لعباداته. ثم انضم إلى هؤلاء فيما بعد متخصصون في مختلف مجالات المعرفة لعل أهمهم الفلاسفة والمتخصصون في علوم اللغة والإناسة والاقتصاد والنفس والاجتماع والقانون والتاريخ.. إلخ. يمكن القول إن كثيرين من المهتمين بمناقشة قضايا الدين يرون أن التوسع في مشروعات البحث في الظاهرة الدينية من قبل المتخصصين في العلوم الاجتماعية إنما كان بسبب الحريات التي صاحبت تلك الحركة الفكرية التي اجتاحت أوربة وسميت بعصر التنوير (Durkheim, 1947; Lenski, 1961). ونتج عن هذا النقاش تيارات فكرية ومدارس نظرية من بينها المنظور الوظيفي الذي اهتم المتخصصون فيه بوظيفة الدين في المجتمع، وما يقدمه للفرد من فوائد، وما قد يكون من وظائف سلبية.
انطلق عمل هؤلاء بسيل من الأسئلة التي غربت وشرقت، بحيث لم يستثن سؤال ورد إلى الذهن؛ بما في ذلك التشكيك في ثوابت الدين الذي ينتمي إليه الباحث. في الماضي ظهر التشكيك في بعض ثوابت دين الآخر، ولم يتجرأ الباحث على التشكيك في دينه وإلا تعرض لأقسى درجات العقاب، لكن ومع انطلاق عصر الحريات الفكرية صار بإمكان البعض التشكيك في كل شيء. لا يعني هذا أن أسلوب كثرة الأسئلة كان مقبولاً اجتماعياً، بل كان مرفوضاً، إلا أن الرفض لم يصل إلى درجة إقصاء صاحب السؤال نهائياً. من المفيد الإشارة إلى أن الذين يؤرخون لهذه المناقشات المتحررة يحصرونها في الغالب في داخل الدين المسيحي، لكن الذي يراجع التاريخ بشيء من الدقة يعثر على مناقشات لا تقل جرأة عن التي جرت خلال القرون التي بدأت بالقرن السادس عشر أو السابع عشر قام بها رجال دين ومتفلسفون يهود مشككين في درجة مصداقية بعض ما جاء به أنبياء ورسل اليهود. الشيء نفسه حدث عند المسلمين عندما ازدهرت حضارتهم، فكثير مما أنتجه مفكرو المعتزلة يقع تحت حرية الفكر التي لم تستثن موضوعاً، بما في ذلك المقدس. صحيح أن هذا الاتجاه لم يستمر طويلاً، وأن تأثيره في الفكر الديني كان محدوداً، فقد سادت تفسيرات الذين ضيقوا مساحة الحرية في هذا المجال، وأعطوا لأنفسهم حق تكفير المسلم، وحق إصدار فتاوى (هدر الدم)، مما ضيق مجال الأسئلة التي يحق للمسلم المجاهرة بها، ولكن لم تخل الساحة بالكامل من أصوات حاولت تفسير الفكر الديني بتفعيل دور العقل إلى حد كبير.
وبناء على ما تقدم، عندما يتم الحديث عن الذين ساهمت كتاباتهم في تطوير المنظور الوظيفي للدين، يذكر دوركايم وفيبر ومالينوسكي وتروليتش وغيرهم. لكن الذي يريد أن يؤرخ لهذا المنظور، ودون تحيز، لابد أن يذكر ابن خلدون. فهذا الباحث العربي الذي عاش في القرن الرابع عشر، سبق غيره في مناقشة دور الدين مستخدماً مفاهيم تقع ضمن مفاهيم علم الاجتماع. ومن يمكنه تخصيص مساحة ووقت طويل لإجراء مقارنات بين ما كتبه ابن خلدون في هذا المجال وما كتبه دوركايم من بعد، فسيجد نقاط تشابه كثيرة كما سيجد نقاط اختلاف.
خصص ابن خلدون للدين في مقدمته أجزاء متعددة في مواقع مختلفة، لكن على أنه مسلم التزم بثوابت الدين وتعرض لها شارحاً، أو اتخذها مثالاً يعزز به ملاحظة أو رأياً. قبل ابن خلدون بأن الإسلام آخر الأديان وأكملها وأنه دين كل الناس، والدين الذي يضمن للبشر العيش في حالة توازن مع الطبيعة البشرية، وأكد الدور الهام للدين في تقوية العلاقات الاجتماعية، وهي حالة ضرورية لإقامة عصبية، وهذه بدورها ضرورية لإقامة دولة وإقامة حضارة. لذلك إذا ضعف الوازع الديني، ضعفت العلاقات الاجتماعية، وضعفت العصبية ومن ثم الدولة، وانهارت الحضارة (ابن خلدون، 1999: 278 - 279).
عندما نشر دوركايم فيما بعد كتابه حول الدين، اتفق مع بعض الآراء التي ذكرها ابن خلدون على أنها وظائف هامة يمكن للدين أن يؤديها لفائدة قيام مجتمع بشري سعيد وقوي. وأكد دور الدين في تنظيم العلاقات الاجتماعية بما تضمنه من قواعد، ابتداء بتلك الخاصة ببناء الأسرة والمحافظة عليها، واحترام الملكية الخاصة، وأكد كذلك دور الأفكار الخاصة باحترام الملكية، والطاعة الكاملة للحاكم، للمحافظة على الأمن الاجتماعي، إلى جانب تقديم خدمات من شأنها توفير الدعم المعنوي للفرد، ومساعدته على العيش في حالة من التناغم مع النفس، وما يتعلق بحاجاته النفسية.
ساهم عدد ممن جاء بعد دوركايم في التمييز بين الوظائف الظاهرة والوظائف الكامنة أو غير الظاهرة، وإلى ما يمكن أن يصنف بالوظائف السلبية وبالوظائف الإيجابية. بالتأكيد يعتمد ما يدخل تحت أي تصنيف على وجهة النظر التي ينطلق منها المصنف، وإلى جانب هذا يمكن التصنيف على مستويين: الفرد والمجتمع.
أولاً- الوظائف الموجبة
أ - على مستوى الفرد
1- الراحة النفسية المتوافرة للفرد نتيجة إيمانه بوجود إله خالق قوي، وموجود في مكان ما، ويستطيع مراقبته في جميع الأوقات، وأن تأديته لواجبات فرضها الإله ستقربه منه، وتجعل منه شخصاً مستقيماً. والحصول على رضا الإله مطلب عام، والاستقامة في القول والفعل من بين أهم المبادئ المتضمنة في أي معتقد ديني؛ لأنها المكون الأساس للأخلاق؛ الجانب الرئيس لاستمرار حياة اجتماعية في المجتمع.
ومن جهة أخرى يحصل الفرد على راحة البال عندما يحيل كثيراً من الأسئلة الصعبة التي لا يجد لها إجابات إلى قوة كبرى أقوى منه، فهذه القوة لديها جميع الإجابات، ويمكن أن تمد بها الإنسان في يوم من الأيام، أو أن يتعرفها عندما ينتقل إلى عالم آخر. فمنذ البداية نظر الإنسان إلى الحياة الدنيا على أنها مرحلة قصيرة ضمن حياة طويلة أو أبدية. وفكرة الثواب والعقاب والجنة والنار موجودة بصورة أو أخرى في أغلب الديانات (السواح، 2004).
2- لا توجد مساواة بين الأفراد في مختلف الصفات والإمكانات، سواء ما يتصل بالصفات البيولوجية أم المكتسبة. الإيمان بوجود خالق وحكيم وزع الصفات والإمكانات بين الناس بهذا الشكل يجعل الفرد يرضى ويقتنع بوضعه بغض النظر عن حظه. فالمعتقدات الدينية تزوده بمعرفة أو معلومات تؤكد وجود حكمة وراء هذا التوزيع غير العادل، وأن ما فات الفرد في الدنيا سيعوض عنه في الحياة الأخرى إذا أحسن التصرف.