كتاب " بين العسكرية والسياسة (ذكريات) " ، تأليف عبد الرزاق اليحيى ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب بين العسكرية والسياسة (ذكريات)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وقتها، طلب أبي مني أن أبقى في الدار مع شقيقين لي أصغر مني هما عدنان ومروان وقال إنه ذاهب مع أمي وأخواتي إلى منزل عمي أحمد ليذهبوا معاً إلى مكان التجمع. وما أن صرنا نحن الصغار في الدار الكبيرة وحدنا حتى جاء إلينا ضابط بريطاني يحمل على كل من كتفيه نجمة واحدة ويتمنطق بمسدس، وجاء معه جندي يحمل بندقية في رأسها حربة، ومترجم دلّت لكنته على أنه يهودي.
وسأل هؤلاء عن والدي وأهلي، فقلنا إنهم ذهبوا إلى مكان التجمع. ثم فتّش الضابط وجُنديّه المنزل بعصبية، ومزقوا الفرش، وكسروا كل ما وقعوا عليه مما هو قابل للكسر، وخلطوا خزين المؤن بعضه ببعض، الكاز بالزيت بالسمن وبكل شيء. وجلس اليهودي إلى المكتب الذي يستخدمه أبي وراح ينبش محتوياته ويقرأ الأوراق ويسألني عن الأسماء التي يقع عليها. وكنت أجيب بصراحة تامة على الأسئلة: هذا عمي، هذا خالي، هذا أعرفه، هذا لا أعرفه. بعد ذلك، أخذت إلى الحديقة وسألني الضابط عبر المترجم: من الذين كانوا عندكم في الليل؟ وعندها، نبت الحذر وقلت إني لا أعرف. وكرر الضابط سؤاله، فكررت أنا إجابتي، مرة ومرات. ثم وضع الضابط فوهة مسدسه على صدغي،ووضع الجندي حربة بندقيته على صدري وتكرر السؤال، فلم تتبدل إجابتي.
وصاح الجندي وصرخ وأنذرني بالموت، وأنا أكرر الإنكار. وفي النهاية، لم يقتلوني، لكن الضابط ضربني بعصا غليظة ضرباً موجعاً ما أزال أتذكر وقعه كلما استحضرت تلك الواقعة.
كنت أحمل، أنا الطفل، شعوراً قوياً بالعداء للبريطانيين الذين يحتلون أرض وطني ويساعدون المهاجرين اليهود للاستيطان فيه، ويسممون حياة ناسه. وقد تقوّى هذا الشعور بعد أن شهدت الجنود مرة يطلقون النار على واحد من أبناء قريتي ويردونه قتيلاً. وكانت أحاديث أبي لنا عن الاحتلال وعن الاستيطان الصهيوني الذي يحميه الاحتلال، وعن ضرورة تحرير الوطن وحمايته من الضياع على أيدي الصهيونيين، قد نمّت وعينا الوطني منذ صغرنا. وأظن أن هذا كله، بالإضافة إلى خوف الطفل على أهله، قد حصنني ضد تهديد الضابط لي. وحين ضربني الضابط وجنديّه ومترجمه، ثم حين مُدّدت ونلت فلقة قاسية، كان عنادي، عناد الطفل، قد جعلني أقوى من أن ألين.
وأياً ما كان عليه الامر، فقد اغتنمت فرصة عودة الثلاثة من الحديقة إلى المنزل، ففررت من رقابتهم، وجريت بأقصى ما أسعفتني قوتي حتى بلغت دار المختار داوود الهندي الذي هو زوج أختي لأبي، وهو رجل فاضل وذو شخصية متينة. وقد بلغت دار قريبي فيما هو يتهيأ للذهاب إلى مكان التجمع، فصحبني إليه بعد أن واساني وهدأني.
عند المقبرة حيث جمع أهل القرية، وقعت عليّ عينُ الضابط الذي ضربني، فقال هذا شيئاً لمن بدا لي أنه القائد المسؤول، فناداني القائد وسألني بعربية ركيكة عما إذا كنت خائفاً، فأجبت بالنفي، فتحداني: "بلى، أنت خائف وإلا فلماذا لا تحكي عمن كان عندكم في الليل". كان أبي المحتجز مع مجموعة من كبار السن يراقب المشهد، وكنت أرامقه النظر فتلقيت إشارة منه بأن لا أتكلم. والتقط الضابط إشارة أبي هذه فأمر الجنود بسحبه من المجموعة وإرغامه على السير فوق شوك الصبّار وهو حافي القدمين. وصار علي أن أشهد بأم عيني عذاب أبي ومهانته، ولكني لم أتكلم. ثم إني لم أتكلم حتى بعد أن ضُربت بأمر القائد أمام أبي وأمي وأهل القرية كلهم. وأهاج ضربهم إياي مشاعر أمي والنساء الأخريات، فراحت أمي تصرخ، واشتد صراخ النساء جميعهن في وجه الجنود الذين يضربونني إلى أن توقف الضرب بعد أن كاد يُغمى عليّ.
وفي النهاية، اقتيد أبي إلى المعتقل في عكا مع من اقتيدوا إليه من الرجال، وأسلمني الضرب المبرح إلى أمراض انقضى عام كامل قبل أن أبرأ منها أنا الذي صار علي أن أذهب إلى حيفا كل أسبوع من أجل العلاج. لئن أمكن أن يبرأ جسدي من تأثير الضرب فإن ما خلفه هذا الضرب في روحي كان مما يصعب أن يُمحى. وهل يمكن أن يمحى بسهولة إحساسُ الطفل بالقهر والتأذي! لكن، كما قد تنطوي أيّ ضارة على نافعة، فإن هذا الحادث الذي أوجعني ودمر أعصابي، قد جلب تقدير أقراني لي وتعاطفهم معي. والواقع أني كنت بين الأطفال أحظى بمكانة متميزة قبل هذا الحادث، أما بعده فقد ارتفعت مكانتي في عيون الجميع، الصغار و الكبار، وغمرتني محبتهم.
ومع تقدمنا في رحلة الاهتداء إلى المعرفة، وبتأثير ما يبلغنا من أصداء الثورة، كان وعينا ينمو فيسبق الوعي المقدر لعمرنا، نما وعينا الوطني ووعينا الاجتماعي، ونمت كذلك طموحاتنا، خصوصاً طموحاتنا المدرسية. ونما ولعي بالدراسة، كنت مغرماً بالطبيعة مفتوناً بالتعرف على كائنات البيئة المحيطة بي واكتشاف مكنوناتها. وصرت أعرف مواطن الطيور والزواحف والنمل والأسماك ومواطن كل نبات. وكنت اصطاد الثعابين الصغيرة وأحفظها في علب السجائر، وكنت أستخدمها لإفزاع المعلمين والطلاب. وبالإجمال، كان وقتي موزعاً على دروس المدرسة والنوم في المنزل والتجول بين الماء والبراري والجزر الصغيرة.
وبالرغم من أن سنواتي الأولى في المدرسة تزامنت مع الثورة فإني لا أتذكر كيف أثرت الأحداث العامة في مجرى الدراسة ذاته. ولكني أتذكر يوماً قال مدير المدرسة للتلاميذ إن البلاد حصلت على الاستقلال. ثم توالت احتفالات متنوعة، مسيرات وأغانٍ وأناشيد ورقص ودبكات وأعلام رفرفت في المدرسة وفي أرجاء القرية. وأتذكر أن هذا دام أسبوعاً ثم انطفأ فجأة دون أن نحصل على أي استقلال. ثم عدنا إلى ما كنا فيه، نذهب نحن الصغار إلى المدرسة، ويذهب الشبان إلى معاقل الثوار وإذا جاءوا إلى القرية في زيارات خاطفة يقومون بها وهم مسربلون بالفَخار.
في ذلك الوقت، كانت الرياضة نشاطاً أساسياً نمارسه في المدرسة وفي الطبيعة التي تغري بممارسته. كنا نلعب كرة القدم، ونركض، ونسبح، ونركب الخيل ونصطاد السمك. وقد تعلقت بالخيل حتى قبل ذهابي إلى المدرسة. وكنا نتسلى بالألعاب التي شاعت بين الأطفال، الطميمة أو الاستغماية، وعسكر وحرامية، وطاق طاق طاقية. وكنا نلعب ألعاباً أخرى أظن أنها مقتبسة من ألعاب مصرية لأننا نقرنها بترديد أغان تشير إلى أصلها المصري، أحفظ إلى الآن منها، "أَوَّلَكْ يا اسكندراني، يا عيون الغزلانِ" ولما كان في قريتنا كما في كل قرية حارتان، قبلية وشمالية، فإن أطفال الحارتين كانوا يتنافسون في الألعاب بحميّة كما يتنافسون في المدرسة وخارجها.