كتاب " بين العسكرية والسياسة (ذكريات) " ، تأليف عبد الرزاق اليحيى ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب بين العسكرية والسياسة (ذكريات)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في اليوم التالي، تهيأت المجموعة الكبيرة للانتقام. فتسللتُ إلى المدرسة تسللاً. واشتريت من دكان المدرسة أطعمة، بسكويتاً وأشياء أخرى، ثم صحبت شخصاً من أنسبائي وتسللنا إلى منطقةٍ جبلية شرقي المدرسة يسمونها الجِرد، وهي منطقة عالية مجللة بالأحراش والطريق إليها ضيق ووعر. وهناك، هيأت الدفاع. وكانت أكوام الحجارة هي الذخيرة التي لم يوجد ما هو أنفع منها في ذلك الظرف. وما اكثر ما حاول طالبوا الانتقام الوصول إلينا فردتهم حجارتنا!
لكن، لئن نجونا من الوقوع في القبضة فقد وقعنا في الحصار الذي أحكمه هؤلاء حولنا. وبقينا محاصرين في الجرد حتى منتصف الليل. وحين قلق أقربائي لغيابي سألوا التلاميذ فلم يجرؤ أي من هؤلاء على الوشاية بمناوئينا الأقوياء، إلا واحداً واتته الجرأة في وقت متأخر. وجاءت مجموعة من الشبان وفتحت ثغرة في الحصار وأنقذتنا.
وفي يوم توزيع الشهادات مع انتهاء السنة الدراسية، تعمدت أن آخذ شهادتي في وقت مبكر قبل أن يجيء الناقمون علي أنا الذي ظفرت مرة أخرى بالمرتبة الأولى. لكن الناقمين كانوا قد تحوطوا للأمر وأعّدوا لي كميناً وجدته في انتظاري على طريق العودة عند التينة، فدافعت عن نفسي ما أمكنني ذلك. وأبيت أن أفرط بشهادتي التي شاؤوا أن يأخذوها مني ويمزقوها. وتحيّنت لحظة مواتية عند مرور بعض الرعيان فانفلتّ من بينهم، وأطلقت ساقي للريح، ونجوت مرة أخرى. ثباتي المتواصل سنة دراسية بطولها بدّل مزاج التلاميذ تجاهي.
وحين جئت إلى المدرسة في أول أيام العام الدراسي التالي بعد أن قضيت عطلة الصيف في الطنطورة، وجدت مزاجاً مختلفاً تماماً. وقال قائد خصومي السابقين وهم يحتفون بعودتي: "أنت أول غريب يصمد هذا الصمود"، وأضاف: "ستكون واحداً منا منذ الآن، وستكون حمايتك واجبة علينا". وبالفعل، تمتعت منذ ذلك الوقت بصداقة من كانوا خصوماً وصارت لي بينهم مكانة خاصة ومعزّة كبيرة، وصرنا نذهب معاً الى تجمّع القوات البريطانية المنتشرة بين اشجار الزيتون الكثيفة التابعة لقرية الطيرة، ونشتري من جنودها علب المرملاد (المُربى) والجبنة والبسكويت، كما كان بعض الاهالي يحصلون من القوات البريطانية على دواليب السيارات المستعملة ويبيعونها بأسعار جيدة.
وبعد ان أنهيت الصف الخامس في سنة إقامتي الثانية في الطيرة، أضيفت إلى مدرسة الطنطورة الصفوف الابتدائية التي كانت تفتقر إليها، فرجعت إلى قريتي. ومن جديد، انهمكت، أنا الذي صرت تلميذاً في الصف السادس، في حياة القرية التي أحبّها. وفي هذه الفترة، أنشئت تعاونيتا النقل وصيد الأسماك التي تحدثت عنهما، أسهم في إنشائهما المتعلمون في القرية، الذين انهوا دراستهم، ونشطت حركة اتجهت إلى بناء مدرسة جديدة وساهمت التعاونيتان في نفقات البناء. وأسس مبادرون متعلمون، منهم جودت الهندي ومحمود اليحيى، نادياً ثقافياً ونادياً رياضياً باسم نادي النهضة الرياضي، فاتسع النشاط الثقافي وانتظم النشاط الرياضي. وفي هذا السياق، زادت المحاضرات التي يقدمها ناس من القرية أو ضيوف ويحضرها الفلاحون وصيادو السمك والرعاة، وتشكلت فرق رياضية عدة. وغلب فريق كرة القدم فرق المنطقة وتغلب عليها كلها بما فيها الفرق اليهودية.
وقد انهمكت أنا أكثر ما انهمكت في النشاط الرياضي، فتدربت على كرة القدم، وظفرت بالمرتبة الأولى في المباريات السنوية لمدارس فلسطين في عكا في سباق المائة متر، وظفر زميل لي هو بهجت عبد الأمين من الطيرة بالمرتبة الأولى في سباق الثلاثمائة متر.
وقد حدث مع تقدم الإعداد لبناء المدرسة الجديدة أن نشد القائمون على المشروع مساعدة حاكم اللواء البريطاني، فجاء هذا إلى الطنطورة ومعه زوجته، واحتفت القرية الراغبة في بناء المدرسة بهما. وكُلّفتُ أنا الذي صرت تلميذاً في الصف السابع أن ألقي كلمة الترحيب بالزائرين باللغة الانجليزية التي كتبها معلّم اللغة الانجليزية في المدرسة، ولبست في هذه المناسبة زيّاً خاصاً هو زيّ البّحارة الكحلي. ثم أتيح لي أن أصحب الزوجين على وليمة الغداء التي أقامها عمي محمد اليحيى في منزله. وكان هذا العم محامياً يعمل ويقيم في حيفا ويملك في القرية فيلا يأتي إليها بين وقت وآخر، وكانت عبارة Your Excellency، سعادتكم، قد استقرت في ذلك الحين على لساني، فاستخدمتها في مخاطبتي الضيفين، ولعلي كنت الوحيد بين الطلاب في ذلك الوقت الذي أستخدمها.
يومها، اجتذب سلوكي وطريقة خطابي نظر زوجة الحاكم فتحدثتْ إلي ووجهت أسئلة، تحدثت طبعاً بالانجليزية، وتلقت إجاباتي باللغة ذاتها. ويبدو أن السيدة البريطانية أعجبها الولد الطالع الذي كنته. وقد قالت السيّدة لوالدي إنها راغبة في أن تتبناني، هي التي لم تنجب أولاداً، وعرضت أن تأخذني معها فوراً إلى منزلها في حيفا، وتعهدت أن تعتني بي، هي التي توسمت فيّ كل خير وقالت إنها سترسلني إلى لندن لأتم دراستي فيها. وبالطبع، لم يقبل والدي طلب السيّدة، وقد أبلغ إليها رفضه، فتشبثت هي بالطلب، واستنجدت بعمي محمد ليدعمها. ولئن لم تحقق زوجة الحاكم ما رغبت فيه، فقد نشأت بداية صداقة استثمرها شقيقي محمود الذي يكبرني سنّاً عندما أقام في حيفا لإكمال دراسته فيها فصار يزور منزل الحاكم ويحظى فيه بالترحيب والرعاية، وحصل من زوجته على ألبوم من طوابع البريد القديمة. وكان جمع الطوابع هواية دارجة في ذلك الوقت.
وفي ذاكرتي من وقائع تلك الفترة حضور كبير لرحلة مدرسية قمنا بها مشياً على الأقدام وأنا في الصف السابع، حتى بلغنا قيسارية. وفيما الأستاذ منصرف إلى شرح المعالم التي أخذنا لزيارتها، انفصلت أنا عن الجماعة وتوجهت إلى متحف البلدة، وكان هذا، آنذاك، مجرد غرفة غير فسيحة تضمّ أوراقاً وأشياء قديمة أخرى قليلة. وحين استفهمت المشرف عما يمكن لي أن أراه، سألني الرجل عن البلدة التي جئت منها، فعرف أني من الطنطورة، فجاء بمخطوطة وقرأ لي نصاً يصف بناء قريتي وتطورها. وعرفت يومها أن ميناء الطنطورة كان فيه في وقت غابر سفنٌ حربية إسلامية لم يفصح النص الذي سمعته عن سبب وجودها فيه. ولم يفدني أستاذ صفي الذي سألته عن الموضوع بما يطفئ فضولي. وعلى كثرة ما شغلني بعد ذلك، بقي هذا الموضوع في البال، ثم وجدت الإجابة بعد سنوات، بل عقود، حين أتيح لي أن أشاهد فيلماً وثائقياً يصوّر غطاسين سويديين جاءوا إلى الطنطورة المهدمة بعد استيلاء إسرائيل عليها. وقد أظهر الفيلم بقايا سفينة إسلامية حربية فيها سيوف ودروع وبقايا سفينة يونانية حربية أيضاً عثر عليها الغطاسون في ميناء الطنطورة المهجور خلف الجزر الصغيرة المتناثرة حول الميناء، محفوظة جميعها الآن في مصنع الزجاج في الطنطورة الذي حُوّل إلى متحف بعد الاحتلال. وبهذا، وبغيره مما وقعت عليه أثناء قراءتي في التاريخ، استخلصت أن ميناء الطنطورة كان حتى العصر الوسيط هو الميناء الرئيس في المنطقة، وليس ميناء قيسارية، وأن الاغريق احتلوها في القرن الثاني قبل الميلاد، وانها كانت أول موطئ قدم للفلسطينيين الذين جاءوا من كريت.
وفي تلك الفترة من إقامتي في الطنطورة، اشتد افتتاني بطبيعتها الأخاذة، وزاد تواتر جولاتي وسط هذه الطبيعة، ونمت عندي هواية الرسم التي لازمتني لزمن طويل. وكنت كثيراً ما أتجول في محيط القرية والقرى المجاورة حاملاً حقيبة فيها بعض الملابس وأدوات الرسم لأرسم مناظر الطبيعة. وفي هذا النحو، تعرفت بعين عاشق الطبيعة على قرى منطقة حيفا جميعها، عتليت، وجبع، وعين غزال، وإجزم، وصبّارين، وعارة، وعرعرة، واللجون، وغيرها، ورسمتها.
وأتذكرني مرةّ جائلاً في عتليت قرب أهرام الملح وأنا ألبس الشورت الكاكي الذي شاع استخدامه مع وجود الانجليز في البلاد. كما أتذكر كيف ظهرت فجأة دورية من رجال الشرطة البريطانيين، وكيف أخذني هؤلاء إلى مخفرهم ظانين اني مهاجر يهودي أوروبي ضل طريقه وأنا محتفظ بالصمت إلى أن بلغنا المخفر. لقد حظيت يومها بحفاوة رجال الشرطة بي إلى أن تكلمت، إذ ما أن عرف هؤلاء أني عربي حتى أوسعوني ضرباً ثم طردوني من مخفرهم طرداً.
رسومي كلها، ما رسمته في تلك الفترة وما رسمته بعدها، جمعتها في المنزل الذي انتقلنا إليه قبل 1948 عندما سكنا في حيفا. وقد سكنت منزلنا بعد النكبة عائلة يهودية إيرانية قامت ببيعه إلى طائفة البهائيين في المدينة، وفقدنا، أنا وأسرتي، المنزل وكلّ ما بقي فيه، رسومي وملفّي الدراسي في الابتدائي والثانوي وغيرها. وها هو العمر قد تقدم دون ان أعثر على أي من رسومي أو يبقى لي أمل بالعثور عليها.
وقد ينبغي أن أستحضر هنا واقعة زيارتي وأنا في الصف السابع إلى كيبوتس معيان القريبة من زخرون يعقوب والمقامة على المرتفعات شرق الطريق الساحلي حيفا – يافا. أمضيت في هذه المستعمرة نهاراً كاملاً بدعوة من معلم اللغة العربية فيها، وهو يهودي عراقي اسمه نعيم. وقد جاء هذا المعلِّم إلى مدرستنا في الطنطورة في زيارة خاصة، وأعجبه مستواي في اللغة العربية فدعاني لزيارة الكيبوتس. ولم يجد أهلي ومدير مدرستي بأساً في أن أُلبّي الدعوة.
فذهبتُ إلى معيان وحدي حيث استقبلني المعلّم نعيم الذي أخذني بجولة شاملة في تلك المستعمرة مبتدئاً بمكتب الإدارة. أطلعني في المكتب على رسوم بيانية معروضة على الجدران تُظهر ما استصلحوه وما سيستصلحونه من أراضٍ. وقد أعجبتني طريقة إعداد الرسوم البيانية، كما أعجبني نظام العمل التعاوني، ولكن لم تعجبني الحياة الاجتماعية فيها لخلوِّها من الحرّية الفردية. وشبّهتُ الكيبوتس بالمعسكر الصّغير الذي يعمل فيه الناس كالآلات في غياب العائلة، فالأب في العمل والأم في العمل أيضاً، والأطفال في الحضانة، والطعام في مطعم مشترك. إن إعجابي بالعمل التعاوني لم يغفل عيني، حتى وأنا الولد ابن الصف السابع، عن حقيقة أن الأرض التي تظهرها الرسوم هي أرض فلسطينية مغتصبة كان من الممكن أن يستمتع أبناء الشعب الفلسطيني بها لو لم تصادر دولة الانتداب بريطانيا استقلاله وحريته وتقمع تطلعه إلى التقّدم وتجنّد قواها في البلد لخدمة المعتدين على أهله.
في نهاية الصف السابع، وضعتني العلامات المدرسية التي حصّلتها في المرتبة الأولى، ليس بين أبناء صفي وحدهم، بل بين تلاميذ الصف السابع في فلسطين كلها. وكان الحصول على المرتبة الأولى في نهاية المرحلة الابتدائية هذه يؤهل الظافر بها لدخول الكلية العربية في القدس، أهم معاهد فلسطين وأرقاها، المعهد الذي لا يقبل غير المتفوقين. وقد قابلت مدير الكلية لهذا الغرض. وكان المدير آنذاك هو المربي ذائع الصيت الأستاذ أحمد سامح الخالدي. وبالرغم من إقرار الأستاذ الخالدي بأهليتي وتعاطفه الكريم معي، فقد تعذر أن أدخل هذه الكلية في ذلك العام. لا لشيء إلا لان أخي محمود الذي يدرس في ثانوية حيفا حقق تفوقاً هو الآخر فأُخذ قبلي إلى الكلية الرشيدية، والأنظمة لا تبيح جمع أخوين في هذين المعهدين اللذين يتنافس الجميع من أجل الظفر بالدراسة فيهما. وبفقدي الفرصة، سُجّلت تلميذا في الصف الأول الثانوي في مدرسة حيفا، وكنت اذهب كل يوم من القرية إلى مدرسة حيفا الثانوية وأعود مساءً في احد باصات شركة الخالدي وكنّا نطلق عليه باص شكيب حسب اسم سائقه.
حدث هذا في العام 1943، وهو العام الذي كانت أسرتي فيه قد انتقلت إلى العيش في حيفا من أجل تعليم الأولاد دون أن تفقد صلتها بالطنطورة بالطبع وفي مدرستها الثانوية التقيت عبد الفتاح يونس الذي أصبح زميلاً في الجيش وواحداً من أعزّ أصدقائي، غير أني لم أستمر في الدراسة في حيفا وذلك لاني حصلت في نهاية الفصل الأول من سنتي المدرسية فيها على المرتبة الأولى، فظفرت من دائرة المعارف الحكومية بمنحة لإكمال دراستي في مدرسة عكا الثانوية والإقامة المجانية في بيت الطلبة الذي يسمونه المنزل. فسعدت بهذا التكريم، وانتقلت إلى عكا، وأقمت في المنزل القائم على سور المدينة الشهير بجانب سينما البرج، وساعدني شقيقي الأكبر فؤاد بنفقاتي الشخصية أثناء دراستي هناك. وفي الفصل الدراسي الثاني، هذا الذي درسته في عكا، نلت المرتبة الأولى أيضاً. وحين جاءت المجموعة التي تقابل المتفوقين، وعدني الأستاذ أحمد سامح الخالدي بإلحاقي بالكلية العربية في القدس في العام المدرسي التالي أياً ما كانت عليه نتيجة امتحاناتي في نهاية عامي في عكا. وجزم الرجل الذي بدا أنه يتدارك أمراً كان ينبغي أن يفعله منذ البداية: "اعتبر نفسك مسجلاً في الكلية منذ الآن".
استمرت اقامتي في عكا حوالي سنتين. لكن ما اكثر ما تختزن ذاكرتي من وقائع الشهور التي امضيتها فيها، وما أشد تنوع هذه الوقائع!