كتاب " مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية " ، تأليف بوبكر بوخريسة ، والذي صدر عن منشور
أنت هنا
قراءة كتاب مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
يجب ألاّ نعتقد بأن هذا النقص [أو الحاجة الأخلاقية] لا يتعلق سوى بعلاقات بين أصدقاء حميمين أو أزواج. بل يصدق الأمر أيضا على العلاقات العمومية، خاصة العلاقات السياسية بين الشعوب كما هي بين الأمة الألمانية والأمة الفرنسية، على سبيل المثال. نلاحظ منذ سنوات، وجود رغبة في تحقيق وحدة مكبوتة منذ زمن طويل (Reynié, 2004, p. 95) وثقة متبادلة تتجلى الآن بين الفرنسيين والألمان. رغم أنهما شعبان منفصلان [من الناحية اللغوية، منذ 15 قرن وسياسيا منذ 11 قرنا]، فإن الشحنة العاطفية المتولدة والمكبوتة عند كل منهما، تمزج بين المشاعر المتناقضة: الإعجاب، الكراهية، الرهبة، العدائية، العداوة، الانجذاب، الغيظ والاحترام الذي يحمله الواحد نحو الآخر في الوقت ذاته. لكن في الواقع، فقد حررت المقاربة البانية الجديدة، التي اعتمدت منذ أربعين سنة، الانطلاقة نحو الوحدة السياسية المتجذرة.
إذن، تم “تحرير” الثقة بين الفرنسيين والألمان. لكن كيف حدث ذلك؟ تحقق ذلك، بفضل اتصالات متكررة، انفتاح متبادل واعتراف بالأخطاء السابقة (من جانب ألمانيا تحديدا). وقد توصل الفرنسيون والألمان معا إلى الاحتفال بيوم 8 ماي 1945، ليس كيوم انتصار للحلفاء على الألمان، لكن كيوم تحرير للفرنسيين والألمان - وأوروبا عامة - اتجاه مرض القومية - الاشتراكية. ويصح الشيء ذاته، بشأن الاحتفال المشترك بعمليات الإنزال العسكري الأمريكي في شواطئ نورمندي بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني جيرارد شرودر (J. Chirac et G. Schröder).
في الحقيقة، تحققت الكثير من المزايا السياسية والاقتصادية من سيرورة إعادة العلاقات بين ألمانيا وفرنسا. لكن أيضا تحققت سعادة أخلاقية، لا يمكن أن تختزل: تطبع هذه السعادة الأخلاقية التي تشبه سعادة الصداقة، كثافة تاريخ مليء ومفعم بسوء الفهم. بعد النزاع الكبير الأخير (الحرب العالمية الثانية) وبعد إعادة العلاقات الرسمية التي انطلقت بين الجنرال شارل ديغول والرئيس الألماني كونراد أدناور (Charles de Gaulle 1890-1970 et Konrad Adenauer 1876-1967) فقد ظل المجتمعان المدنيان ينتظران مطولا، في الوقت الذي كان فيه المفكرون من الجانبين يتناقشون حول إشكالية “سوء التفاهم الألماني - الفرنسي”. يجب إذن، وضعنة كافة مظاهر سوء التفاهم والعودة إلى حالة الطلاق الفلسفي والفكري التي برزت، منذ أكثر من قرنين من الزمن بين الرومانسية العاصفة والمنطلقة (Sturm und Drang) والنزعة الفكرية في عصر الأنوار. وهو الطلاق الموسوم من الجانب الفرنسي، بالتهجم ضد كل ما لم يكن مطابقا „للذوق“ الكلاسيكي. بينما يرفض الجانب الألماني، „الحضارة“ باسم الثقافة. إذ تجذر التعارض بينهما في نهاية القرن 19م، وبرزت انعكاسات طائفية وهوياتية، ثم قومية، عدائية وعدوانية بينهما، بينما تحول اللاتفاهم المتبادل إلى كراهية عرقية.
لقد تمت وضعنة مظاهر سوء الفهم بشكل ارتكاسي وبكل هدوء، وتم قياس المبالغة المؤثرة التي لم يتم توضيحها في السابق. وقد توصل الأمر حد الحديث عن حب بغيظ! ومهما يكن الأمر، فإن السعادة الأخلاقية ليست فقط هي سعادة الالتقاء والوفاق الذي أستعيد مجددا: إنها سعادة التوضيح والتفاهم المتبادل الذي انتصر، بفعل التعاون لفائدة كل واحد. لكن بعيدا عن الوضعية السياسية الراهنة، يمكننا أن نتساءل عن الخطة المرجعية للأخلاق البانية الجديدة في فكر ف. هيجل (F. Hegel 1770-1831) الشاب. تتناول هذه المسألة موضوعات مركزية، بشأن قضايا: المصير، الصراع من أجل الاعتراف والحب والعفو بشأن الإهانات والمآسي.
ونشاهد الآن نجاح عملية إعادة بناء العلاقة الجديدة: تلك العلاقة التي كانت قبل ذلك مبتورة ومكسرة. وسواء تعلق الأمر بعلاقات خاصة، اجتماعية أو دولية، فإن المقاربة البانية الجديدة تأخذ في الاعتبار المصير والقدرية التي تطبع العلاقات المتأثرة والمصابة عن طريق العنف، الإذلال، الإهانات أو المظالم السابقة. نستعمل هنا كلمة “مصير” لأن الأخلاق التي تعيد عملية البناء تضطلع بمهمة ما يسميه هيجل سببية المصير (causalité du destin). إنه مفهوم قابل للتطبيق، خاصة على المأساة. هكذا تجعل الأساطير العظيمة في مقدمة المسرح مصير الأفراد (أوديب). وينطبق هذا الأمر على التراجيديات الكلاسيكية (Antigone, Phèdre). تبدأ أسطورة فيدر زوجة ملك أثينا التي سقطت في عشق ابن زوجها، عند الكاتب راسين (Phèdre de Racine 1639-1699)1 عن طريق مونولوج يؤديه رئيس جوقة موسيقية في التراجيديات الإغريقية القديمة: يتضمن إعلان المصير منذ القدم شخصية البطل، قبل ولادته: الملكة فيدر، تعرف جيدا أن المتعة (الذنب) المحطمة التي تسكنها هي قضية قدرية وكائنة مع شخصها.
يتموضع المصير في المأساة الكلاسيكية في بناءات شخصية البطل. يرتبط مفهوم المصير بمفهوم الأزمة: البطل يعيش فناءه بكل وجدانه، فهو يسير إلى حتفه وعيناه مفتوحتان إلى أقصاهما. في حين أن ما تم وضعه على الركح من قبل الشاعر المأساوي إشيل وسوفوكل (Eschyle et Sophocle) في التراجيديا العتيقة، ثم في الأدب الكلاسيكي الكبير في العصر الباروكي، قد تم تفكيره فلسفيا، بعد ذلك مع هيجل والمفكرين الرومانسيين، أمثال ف. هولدرن (F. Holdern 1770-1843) بوصفه يصيب ليس فقط بناءات شخصية الأبطال العظام المأساويين، بل كذلك بنية العلاقات التي تلعب فيها أدوار النهضة.