كتاب " إبرة الرعب " ، تأليف هيثم حسين ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب إبرة الرعب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لم توافق المجالس الطبّيّة على تسريحه من الخدمة الإلزاميّة، إذ لم تجد فيه عيوباً ولا تشوّهات، لم تجده مجنوناً قط كما حاولنا أن نقنعهم بذلك، لأنّ كاوا بدا عاقلاً، يجيب عن الأسئلة بدقّة وموضوعيّة، وفي المرّات التي أخذناه إلى المجلس كان ينتابه التعقّل فنظهر مخادعين، يُبهدلنا الأطبّاء والضبّاط ونعود أدراجنا خانعين أذلاّء، بينما هو يقهقه. اقتنعت تلك المجالس بحالته غير الطبيعيّة بعد أربعة أشهر من خدمته، كنت وقتذاك أنهيت خدمتي، ولم تبقَ لنا حجّة في تأجيله، كان لابدّ من سوقه.. في الدورة اكتشفوا حالته، لكنّ الأوراق استغرقت أشهراً في رحلة الروتين المرضيّة. ساهم في إعفائه الضابط المسؤول عنه، الذي أكّد بأنّ حالته متدهورة، وينبغي إعفاؤه من الخدمة، وبعد عدّة محاولات أعفي وعاد ليستمرّ في حياته البسيطة، في البيت بالقرب من أمّي وجدّتي، مشاركاً أبـي الصمت. وكان قد استقرّ له القرويّون على لقب كاوِكو، الذي اشتقّوه من اسمه، وهو لقب مورَّى، يشير إلى التدليع من جهة، ويعلن العباطة أو السذاجة والبلادة من جهة أخرى.
حاولت أن أعوّض فشل أخي في إكمال دراسته بأن أكمل دراستي، لكن هيهات، وأنا غير القادر على تحمّل غلاظات المعلّمين ولا أمتلك صبراً على ذلك. على الرغم من قضائي أكثر من سبع سنوات في الدراسة في المدينة، التي انتقلت للسكن فيها بعد الصفّ السادس، حيث كان التعليم في القرية محصوراً بالمرحلة الابتدائيّة، أمّا مَن يريد إكمال تعليمه، فكان عليه استئجار غرفة في المدينة. كنت أحرص على أن أستأجر بالقرب من بيت خالتي، التي لم يكن زوجها يروق لي، كما أنّه لم يكن يتحمّل رؤيتي أيضاً. كانت مشاعرنا حيال بعضنا متبادلة ومتشابهة. كان يغضّ النظر عن بعض المساعدات التي تقدّمها لي خالتي، ويحرص على تنبيه ابنته ألاّ تختلط معي، أو تكلّمني. لم يكن على علم بتلك الأماسي التي كنت أنفرد بها في القرية، وأحضنها، أستمتع بجسدها اللذيذ، وأضمّ مؤخّرتها المدوّرة إلى وسطي.
نلت الكفاءة بعد محاولتين فاشلتين، لكنّني لم أنل الشهادة الثانوية التي قدّمت عليها ثلاث مرّات. قرّرت إنهاء خدمتي الإلزاميّة، بعدما تخلّفت عنها. كنت اعتدت حياة العزلة والوحدة. ونادراً ما كنت أشتاق لأحدهم. كنت أجد راحة كبيرة في بقائي وحيداً، أستمتع بتخيّل ما لا أستطيع بلوغه وإدراكه.
كان كلّ شيء محصوراً بالعتمة، حتّى تلك اللقاءات مع روناك ابنة خالتي كانت تتمّ في الليل، إلاّ بعد أن تغيّرت أوضاعها إثر الانقلاب الذي أحدثه الخبر الذي ساقه والدها إليها، حول نيّته في تزويجها من أحد معارفه المغتربين في الخارج. أحدث ذلك الخبر زلزالاً في كيانها، وغيّرها بالكامل، تحوّلت إلى فتاة أخرى لا أعرفها.
ما كان منّي إلاّ الفرار إلى الخدمة الإلزاميّة، عسى أن أوفّق في تناسيها. كلّ إخفاقاتي فيما بعد كانت محاولات فاشلة لنسيانها. تمكّنت من قتلها في روحي وذاكرتي بعدما مارست أشنع الجرائم التي أعترف بها. والتي كانت استشفاء من قبلي وتداوياً من الجرح الغائر الذي خلّفته الوقائع والظروف في حياتي.
تراني انهرتُ يومَ انهار أخي، أم يوم جاء والدي غارقاً في صمته، أم يومَ أخبرتني روناك بخطوبتها، أم في الأيّام التي تلت، والتي كانت كلّها كفيلة بتدمير أعتى الحصون، وأصلب الرجال..؟!
على الرغم من ذلك أرفض أن أوصَف بالمختلّ أو المجنون، كما أرفض أن أغيّر عملي الذي درّ عليّ المؤخّرات من أوسع الأبواب.. سعيد بعملي في التمريض. ومَدين لخدمتي في ذلك المستوصف. أطوّر نفسي في المداواة والتمريض يوماً بيومٍ، أرفض أن يكون هناك من هو أبرع منّي في حقن الإبر، هوايتي التي غدت عشقي ونقطة تعلّقي بالعالم.