كتاب " الغضب الإسلامي - تفكيك العنف " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الغضب الإسلامي - تفكيك العنف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
(2)
ومن جهة الفكر، فله طبعاً أنساقه ومرجعياته الذاتية وأبنيته المنطقية وتراكماته التاريخية، وله أيضاً ضوابطه وحدوده وأصوله التي تميزه عن غيره، ويمكن القول: إنه تجاوزها أو اعتَسَفَها في التفسير، وذلك بالخروج عن الضوابط والحدود المتعارف عليها، سواء كان فكراً عقيدياً أم نظريات سياسية أو اجتماعية أو ما شابه، ولكن كل فكر - في هذا النطاق وبأصوله وثوابته - إنما يحتوي في التوظيف الحركي على إمكانات غلو وإمكانات اعتدال. والواقع أو الظرف التاريخي أو موقف جماعة معينة ورؤيتها، هو ما يُنعش إمكانية من هذه الإمكانيات أو يُضمرها.
الفكر الإسلامي نجد فيه - ووجدنا في السوابق التاريخية - اتجاهات مغالاة واتجاهات اعتدال، سواء في النسق العبادي أو في أنساق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والفكر القومي أو الوطني نجد فيه - ووجدنا في تاريخه وفصائله - اتجاهات مغالاة واتجاهات اعتدال، وكذلك الفكر الاشتراكي وجدنا فيه تيارات مغالية وأخرى معتدلة. وكل ذلك نجده في تواريخ وبلدان مختلفة، حسب وقائع التاريخ، كما أن كلاًّ من هذه التيارات الفكرية العامة، صدرت عنها حركات سياسية بعضها يتسم في عمله السياسي بالسلمية، وبعضها يتسم باستخدام العنف.
ونحن نلحظ أن الغلو والاعتدال يحسب بالفارق بين أوضاع الحاضر المعيش والمراد تغييره أو تعديله أو تحسينه، وبين الرؤية العامة للأوضاع المستهدفة طبقاً للصورة المثلى المتصورة، وذلك في نظر الحركة السياسية أو الدعوة المطروحة، وكلما ضاق هذا الفارق كانت الدعوة أو الحركة أقرب للاعتدال، وكلما بعدت الشقة كانت أقرب إلى الغلو.
أما العنف والسلمية، فهي تحسب بالفارق في الوسائل المستخدمة لتحقيق الأهداف وتحقيق الصورة المبتغاة، وكلما كانت الوسائل المستخدمة أقرب إلى التدرج والميل للتغيير، كانت الحركة أقرب إلى السلمية، وبالعكس تكون أقرب للعنف كلما عملت على التسارع أو الفجائية أو العمل الانقلابي.
فمعيار الغلو والاعتدال يختلف نوعيّاً عن معيار العنف والسلمية؛ لأن الأول يتعلق بقرب الغايات أو بعدها عن الواقع الحالّ، والثاني يتعلق بالوسائل التي تستخدم لبلوغ الغايات. وهذا الاختلاف النوعي بين المعيارين لا يعني المفاصلة التامة بينهما، لأن بُعد الأهداف قد يميل بأصحابها إلى التسارع والفجائية في اتخاذ الوسائل، كما أن قربها قد يميل بأصحابها في اعتدالهم إلى السلمية والتدرج. وقد تختلط المعايير على الدعاة والحركيين في دعاويهم وفيما يسوقون من أفكار. ولكن علينا في صدد البحث والتحليل الفكري أن نكون قادرين على التمييز بين الظواهر لنفهمها على نحو أدقّ.
وفي كل الأحوال يتعيّن أن نعرف أن العنف ليس من لوازم الغلو، ولا أن السلمية هي من لوازم الاعتدال . وقد عرفت الحركات السياسية حركات معتدلة مارست العنف الذي يبلغ حدّ حروب المقاومة، كما عُرفت جماعات مغالية لم تستخدم في عملها إلا القلم والقرطاس، ومثال الأولى حرب تحرير الجزائر من 1954 إلى 1962، ومثال الثانية الحركات الشيوعية في البلاد العربية. وإن العنف إنما يظهر عندما يظن الرائي أن باب الإصلاح صار مغلقاً، وأن الأوضاع إنما تجمدت بما يكاد يستحيل معه تَقبل التعديلات، وذلك حتى إن كانت الأهداف معتدلة.
ونحن عندما ننظر في هذا الأمر أو ذاك، إنما يتعين أن ندرك هذه الفوارق لنتبين مكامن الخطأ والصواب، وهذا الأمر المبين إنما يعتمد - أكثر ما يعتمد في بدايته - على دراسة الواقع الحادث، وليس على دراسة الفكر في حد ذاته معزولاً عن الواقع المعيش.