كتاب " الليلة الخالدة " ، تأليف الشيخ عبد الكريم تتان ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب الليلة الخالدة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وهنا آن لنا وحق أن نقف أمام تلك البداية المباركة التي أعلن فيها عن بدء تنفيذ مشروع الإنارة العالمي!! من هناك حيث يربض غار حراء بدأ موكب الهداية للعالم. وغار حراء يتربع بشموخ ووقار على ظهر جبل النور، وهو على بعد بضعة كيلومترات من مكة، وقد تفرد الجبل عن سائر الجبال المحيطة بالبلد الحرام بموقعه الفذ؛ فمن وقف عليه يمكنه أن يطل بيسر على البيت العتيق الذي هو أول بيت وضع للناس، مع بعد المسافة بينهما!! وكأن هذا الرابض هنا يرقب السنين تمر على أهل الأرض، وقلبه يتضرم شوقاً إلى بادرة اللقاء الحبيب العجيب بين أمين الوحي جبريل والنبي الخاتم المختار لتنفيذ مشروع الإنارة العالمية، وفي هذا اللقاء شرف للمكان بل للدنيا بأسرها، حيث كان الغار مختار المختار متحنثاً يتوجه فيه إلى قيوم السماوات والأرض على ملة الخليل. وبينا الرسول في الغار يتحنث إذ جاءه جبريل يحمل الكوكبة الأولى من المنهج الرباني الذي يمثله كتاب الله تعالى وسنة الرسول المعصوم، بعدما تم نسخه من اللوح المحفوظ جملة على ما ذهب إليه العلماء، وأنزل إلى السماء الدنيا ليوضع جملة في بيت العزة ليكون قريباً من الأرض حيث يباشر صياغته للحياة فيها، نزل جبريل بالآيات الأولى من سورة (العلق) بدأ بها الوحي، ثم اتسع بعد ذلك عبر الزمان إلى أن ختم بآية عجيبة نزل بها جبريل عليه السلام وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: ضعها على رأس ثمانين ومئتين من سورة البقرة، وتتضمن بعبارة واضحة وبيان آسر المصير العام الذي ينتهي إليه وجود الإنسان ههنا ليبدأ وجوده اللانهائي هناك حيث تنشر الآخرة بعد طي هذه الدنيا، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [البقرة: 2/281] . آية توقف الناس أمام مسؤولياتهم بعدما أعطوا حرية الاختيار، وبصّروا بما يسعد وبما يشقي، وتقرر العدل المطلق.
قلنا في المدخل كانت الأرض غارقة في ظلمات تلاطمت أمواجها، ظلمات غليظة صاخبة، الرشد فيها غريق عديم التنفس، والهداية اضمحلت إلا من بذور أو جذوع وجودها وعدمها سواء أمام شراسة الضلال المستشري، لم يكن هناك سوى بقايا من نصوص أو سلوك له صلة بالرسالات، غيبت من دروب الحياة المنارات، وعميت البصائر ولسان حالها الفطري يجأر طالباً الإبصار، التاثت الخطا على مسار الناس الاجتماعي والفكري والسلوكي.. ومن حراء جاءت الإضاءة الأولى معلنة بدء تنفيذ برنامج أعدّ أزلاً لإنارة كل الأرض، حتى لا يبقى فيها مكان تطاله الشمس ويغطيه النهار بضوئه الباهر إلا دخلته تلك الإضاءة، تعرّف بالحقائق، وتحدد المسار الصحيح السوي، وتحقق الهداية التي بعث الله بها جميع رسله عليهم السلام، ودعك من تلك الجحور الغارقة في الظلام المؤتلفة معه حتى صار قطعة منها!! الجحور عميقة التسردب والاختفاء في عباب الظلام، فهذه تأبى التنور، بل تتأذى منه، لا لعجز في النور أو قصور فيه، بل لكون تلك الجحور عاشقة للظلام معشوقة منه في علاقة حميمة تشغل عما سواها.
هو مشروع تنوير يبلغ ما بلغ الليل والنهار أطلت طلائعه في خمس آيات، تضمنت كبريات الحقائق التي زاغ عنها كثيرون أو غفلوا، وتبصر الإنسان بوظيفته الرئيسة في هذا الوجود، ومكامن عزه وشرفه، كما تحذر من مسالك الشقاء، وتنصب أمام بصيرته البصائر، ومنها قضية الرجوع إلى رحاب الله تعالى حيث العرض والحساب وجني الثمار، كل هذا بتركيز مفعم بالعطاء لا يتأتى إلا من القرآن الكريم منهاج الإنارة العالمية! فأي قدرة تلك التي يمكنها أن تخرج الناس من هاتيك الظلمات إلى ذلك النور الباهر؟! وهنا تتمثل الحقيقة الكبرى فيمن يحمل أعباء إيصال هذه الإنارة لا من حيث تبليغها فحسب، بل من حيث أسلوبه في إقناع الناس بها، والتزامه بمضامينها، كل ذلك بعزيمة أعلنت عن نفسها مراراً عبر السلوك والمواقف، وظهرت ملموسة في القول الجهير في وجه من يساوم على الترك: "والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه؟!" إنه عليه الصلاة والسلام قام ينذر الناس قاطبة، بادئاً بقومه مذ سمع قول الله تعالى له: {يا أَيُّها الْمُدَّثِّرُ (*) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 74/1-2] وبلغ رسالات ربه لا يخشى أحداً من الخلق، وقد يحكى ذلك في كل مواقف التبليغ، إنه لما سمع {فَأَنْذِرْ} صعد الصفا، ونادى قومه الأقربين حتى اجتمعوا له فدعاهم إلى الله وإلى توحيده، وأنبأهم أنه رسول الله إليهم خاصة وإلى الناس عامة، وكان ما كان وقتها من رد عمه أبي لهب الرد الفاجر الغافل.
ويوم نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 15/94] كان يطوف على حلق الملأ من قريش لا يرهب فظاظة الجاهلية ولا رعونة الشرك، وفيهم أبو جهل وأضرابه، يبلغهم دعوة الله تعالى. كما بلغ رسالة الله يوم ضرب على باب أبي جهل انتصاراً للأراشي وتخليصاً لحقه من أبي جهل الذي مطله ثمن إبله، حتى ذل أبو جهل وقضى الرجل الغريب حقه كاملاً!!
كل هذا بصبر صادق، وصدق صابر، ولعل موقفه في الطائف وما لقي من أهلها من الأمثلة الواضحة لما لقي من الناس، وسأفصل في هذا لاحقاً ليتصل الحديث عن الطائف بقصة الإسراء...