كتاب " الليلة الخالدة " ، تأليف الشيخ عبد الكريم تتان ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب الليلة الخالدة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إن الناس قد سنوا سنة بها يعلنون عن بدء أي مشروع يريدونه؛ إذ يضعون شريطاً على المدخل ثم يأتي من له شأن بينهم ليقص الشريط ضمن حفل مرتب، وبقص الشريط يبدأ المشروع، ولكنا ههنا نجد أن الأمر بالبدء تجلّى بوصل الشريط، لا بقطعه، وما ذاك إلا لأنا أمام مشروع من نوع متميز، يتضمن إيصال النور إلى كل المصابيح في فجاج الأرض، وهذا يقتضي وصل التيار لا قطعه، وقد قام جبريل عليه السلام بحركة جسدتها ثلاث ضمات، ضم بها الرسول عليه السلام، وفي كل منها يقول له: "اقرأ"، والرسول يجيب: ما أنا بقارىء، ثم بعد الثالثة أطلقه بعد ضمه ضمة شديدة، وأسمعه كلام الله تعالى، الإنارة تبدأ بالعلم، بل بثمرة العلم المرجوة القراءة، والقراءة سبيل المعرفة، فما أعظم نور هذه البداية تضخ بها طاقات من النور تكفي أهل الأرض قاطبة، وعلى مدى العصور بل ما دامت الحياة في ظهور.
أجل بدأ العمل بأضخم مشروع هداية عرفته الأرض، مشروع بصائر وسمو وإنسانية ونظافة وطهر، وعبر القارات كلها، وعلى مدى الأجيال ما دامت. وكانت البداية مثيرة أيّما إثارة، حيث تم وصل التيار وإيصاله إلى محطة عالمية ربيت على عين الله ممحضة للحق، ومعدة إعداداً خاصاً لهذه المهمة الجليلة العظيمة العالمية. ومنه عليه السلام سينداح النور عبر شلالات تتدفق لتروي العطاش شداة الحق، صحيح أنه بدأ قطرات ندية، لكنها تتابعت بعد ذلك حتى شكلت ظاهرة تستعصي على الاحتواء. إنها بداية على خلاف ما ألف الناس، وصل بها أمين الوحي إلى غار حراء، وكانت ضمات شوق إلى اللقاء، واستنفاراً لكل طاقات الاستقبال، وإن بلغ الجهد من الرسول بها مبلغه، ثم سكب في قلبه وأذنه الآيات مطالع الوحي المبارك إيذاناً بما كان مقدراً من الأزل، هداية الناس.
- ما أعظم نور تلك الساعة التي التقى فيها الرسولان، أحدهما من الملائكة، والآخر اختاره رب الناس ليبعثه إلى كل الناس هادياً ومبشراً....
ساعة كانت شعاعاً جر بعده أقماراً وأطلع شموساً ونجوماً، فكانت ساعة من أسطع لحظات الدنيا وأكثرها بركة على أهل الأرض، ما أرقاها وما أسماها!!! وما هذه الأرض في رحاب هذا الكون لولا أن الله تعالى نظر إليها نظرة رحمة وأرسل لها الرحمة للعالمين؟ ما أسعد البشرية برسالته التي وضعت مسيرة الإنسان على الصراط الموصل إلى رضوان الله وسعادة الأبد. هناك بدأت قطرات غيث الوحي، ثم انهمر بعد ذلك ليغطي كل شؤون الحياة والأحياء، وليسدد الخطا على طريق السداد والرشاد، قطرات بدأت من ذلك الغار الغارق في أنوار الحضور، وكأنما أعده الرسول عبر سنوات التحنث ليكون منزلاً لأول تنزلات الوحي، وقد شاع في قريش وقتها عن الرسول لتحنثه فيه "أن محمداً عشق ربه". فيا ما أحلاها إشاعة! وأي تعبير هذا فاه به هؤلاء، وإن كنا لا نقره بصيغته ونثبته بمعناه، إنهم عبروا عن عمق انحياش الرسول عن الحياة التي تحياها قريش كل الانحياش، ولم يعرف هذا عن غيره منهم، إنه الإعداد الإلهي لمن سيحمل على عاتقه تنفيذ مشروع إنارة الأرض. وما كان ضم جبريل له إلا ليقف أمام العالم كله فيقول بملء فيه: إن ما أوحي به إلى الرسول لم يكن ضرباً من باب التأمل والتفكير العميق المستغرق للذات الذي يسلب الإنسان عما حوله، بل هو وحي أتى به جبريل، وجبريل ذات، فأوحى به إلى الرسول، والرسول ذات، والذاتان لكلٍّ ماهيتها، أجل ليس ما فاه به جبريل لون تأمل انعقد عبر الزمن كلمات متوهجة نطق بها فم الرسول، بل هو قول الله تعالى نقله ملك كريم أمين ذو قوة مكين، نزل بأمر من الحي القيوم برسالة خاتمة تنبض بالحقائق وتصوغ الحياة بكل أبعادها وميادينها وأنشطتها أروع صياغة!!.
- هناك مجموعة من الأحداث الهامة على طريق الدعوة قبل رحلة الإسراء. فقد توفيت السيدة خديجة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومات عمه أبو طالب في عام واحد،كان ذلك في السنة العاشرة من النبوة، فعظمت المصيبة فيهما عليه، إذ كان عمه -كما هو معلوم- يمنعه من أذى قريش، ويقوم دونه فلا يخلصون إليه بمكروه، وأما خديجة -كما يقول الرافعي- فكانت في هذه المحنة قلباً مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه كقول: "نعم" للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس: لا، قال الرافعي[5]: وبموتهما أفرد النبي بجسمه وقلبه ليتجرد من الحالة التي يغلب فيها الحس إلى الحالة التي تغلب فيها الإرادة،ثم ليخرج من أيام الاستقرار في أرضه إلى الأيام المتحركة به في هجرته، ثم لينتهي بذلك إلى غاية قوميته الصغيرة المحدودة فيتصل من ذلك بأول عالميته الكبرى. قال في الروض الأنف[6]: إن خديجة رضي الله عنها وأبا طالب ماتا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله المصائب بمهلك زوجته، وكانت له وزيرة صدق على الإسلام، يشكو إليها، وبمهلك عمه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه. ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه التراب!!! ولما فعل ذلك السفيه ذلك دخل رسول الله بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله يقول لها: " لا تبكي يا بنية!فإن الله مانع أباك!!"[7].
ثم كانت رحلته إلى الطائف بعد هذه السنين من الجهد الجاهد، كان فيها يعرض الإسلام على أهل مكة ومن يأتي إليها من العرب كما يعرض الذهب على المتوحشين، يرونه بريقاً وشعاعاً لكن لا قيمة له، وما بهم حاجة إليه، وهو حاجة بني آدم إلا المتوحشين... وكانت مكة هذه صخراً جغرافياً - كما يقول الرافعي - يتحطم ولا يلين، وكأن الشيطان نفسه وضع هذا الصخر في مجرى الزمن ليصد به التاريخ الإسلامي عن الدنيا وأهلها. إنه - عليه السلام - منذ جاءه الأمر بالصدع بالدعوة استجاب له وصعد على الصفا وعالن بما أرسل به، ومع المعالنة اتخذت قرارات الصدّ عن سبيل الله من مجلس الطواغيت في مكة، وقصَّ شريطها مَنْ تبتْ يداه، وتابعه الآخرون فأخذوا يلاحقون من أسلم ليوقعوا بهم ألواناً من العذاب، قال الشاعر:
ثم لما تظاهروا لقريش
حين زال الخفاء زاد الجفاء
نوعوا فيهم العذاب وكانت
من لظاهم بالأبطح الرمضاء