كتاب " الليلة الخالدة " ، تأليف الشيخ عبد الكريم تتان ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب الليلة الخالدة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وأقسى ما أوقعوه بالثلة المؤمنة أقصى ما ابتكره العقل الجاهلي من أساليب التنكيل، كإطفاء الجمر بظهور المعذبين، وإلهاب الأكباد بالعطش الحارق في لظى رمضاء مكة، وعلى صخورها المحترقة الشاوية، ومنها التغطيس بالماء حتى الاختناق، والجلد الفاجر تؤديه السياط الوثنية الغاضبة للأصنام. وما نقل أن أحداً ممن آمن ارتد عن دينه جراء ألوان الاضطهاد بعدما ذاق حلاوة الأنس بالله عبر رياض التوحيد، بل زادهم ذلك إيماناً وثباتاً، ولو سجل الزمان كلاماً نابضاً باليقين لسجل ما قالته سمية رضي الله عنها ، وروحها تفيض إلى بارئها وحربة أبي جهل الجاهلة تغوص بين عظامها، وإذا بها تقول لقاتلها: تباً لك ولآلهتك، وهل شيء عندي أحب إلي من لقاء الله!! وصدق من قال: أحسن الله صبرهم فاستلذوا بالبلايا وخفت اللأواء، ولهذا تحملوا ما الجبال الشم عن حمل بعضه ضعفاء. فقرر عليه الصلاة والسلام أن يتوجه إلى الطائف؛ لعله يجد في أهلها مجالاً لدعوته العالمية التي ما ينبغي أن تختنق في دروب مكة الجرداء، إذ بفعل الصد من فجارها أظلمت فجاجها وضاقت مواسمها أمام الدعوة، فكان لابد من البحث عن مجال آخر أرحب صدراً بها، حيث إن أرض الله بجميع أرجائها منازل لنشر الدعوة والنور، وأينما يشرق نورها فهناك الأفق الذي تطل منه شمس الهداية على العالم، وشأن النبوة ألا تكل ولا تمل ولا تتوقف عن مهمة التبليغ، ولا تني عن إيصال الهداية...فالأرض كلها نطاق للدعوة، وكل أهلها عليها هم المستهدفون بها، وهي تغطي كل جوانب الحياة وعلى المستويات كافة، وإن كان مبدأ انطلاقتها من مكة المكرمة، لأنها من حيث موقعها الديني حيث الكعبة التي يحج إليها كل القبائل العربية المنتشرة في أرجاء الجزيرة، كانت الميدان الأمثل لبدء الدعوة العالمية... وقد أكدت النصوص القديمة اختيار الله تعالى لمكة منطلقاً لانطلاق النور العالمي، فجاءت ضمن بشائر أنزلها الله تعالى على الرسل السابقين كموسى وعيسى عليهما السلام، ففي الباب الثالث والثلاثين من سفر الاستثناء في الترجمة العربية المطبوعة سنة (1844) جاء: "وقال: جاء الرب من سيناء وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبال فاران، ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار"، وفاران جبل من جبال مكة، إذ جاء في سفر التكوين في ذكر إسماعيل عليه السلام "وكان الله معه ونما وسكن في البرية وصار شاباً يرمي السهام وسكن برية فاران". فدل النص "مجيئه من سيناء" على إعطاء الله التوراة لموسى عليه السلام، و"إشراقه من ساعير" دل على إعطائه الإنجيل لعيسى عليه السلام، و"استعلانه من جبال فاران" إنزاله القرآن على الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، ولا أوضح مما جاء من بشارة في سفر "أشعيا"، إذ جاء " بعد المسيح يأتي نبي عربي من بلاد فاران"- بلاد إسماعيل - وفاران باللغة الآرامية هي من بلاد الحجاز، كما مر آنفاً، و"على اليهود أن يتبعوه، وعلامته أنه إن نجا من القتل فإنه النبي المنتظر، لأنه يفلت من السيف المسلول على رقبته، ويعود إليها بعد ذلك بعشرة آلاف قديس". وقد تضمنت البشارة الصريحة أمر اجتماع أربعين من شباب مكة على باب النبي ليلة الهجرة ليقتلوه تنفيذاً لاتفاق طواغيت قريش في دار الندوة، كما تضمنت فتح مكة المكرمة من بعد حيث أتاها عليه السلام بعشرة آلاف مقاتل من الصحابة!!! أهناك أوضح من هذا لذي عقل؟؟
وعلينا أن نرجع بعد جولتنا تلك إلى ما كنا بصدده، فنقول: بدأ النبع من حراء ثم تحول إلى نهر متدفق يسقي عبر القرون دون انقطاع، لكنه لم يكن كسائر الينابيع، إذ هي من الأرض حيث معدنها، أما هذا فمعدنه في السماء. وثقيف - في الطائف- أخوال الرسول، وليس بينه وبينهم عداوة، فخرج إليهم يلتمس النصر والمنعة والاستجابة إلى التوحيد، وهناك توجه إلى ثلاثة إخوة هم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو، وهو من سادة ثقيف، لكنهم ردوا عليه أقبح رد وبجاهليّة جهلاء وجفاء وقسوة دونها قسوة الصخور. وهذا الرد بما تضمنه، مع موقف الرسول منه، يجلي طرفاً مما كان يلقاه عليه السلام من الناس، كما يبرز عظمة إصراره على تنفيذ مشروع الإنارة العالمي، وتحمله في سبيل ذلك.
قال أول الإخوة الثلاثة: هو يمرط أثواب الكعبة إن كان الله أرسلك[8]، وقال الثاني: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ أما الثالث فقال: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله - كما تقول - لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!!!
ولعل قول الثالث استحلب منه فريق من الناس المتأخرين قولهم: لا ينبغي أن يدنس الإسلام بالتطبيق، وهم يسعون بذلك إلى إقصاء الإسلام عن الحياة!!
ثم ازداد هؤلاء سوءاً، فقالوا جميعاً: يا محمد! اخرج من بلدنا والْحَقْ بمحابك من الأرض، فقام عنهم وقد يئس من خيرهم وخير بلدهم، واستكتمهم ما كان منهم لئلا يبلغ ذلك قريشاً فيذئرها عليه. ومن مظاهر رسوخ هؤلاء في السوء والانغلاق الجاهلي أنهم لم يكتفوا بما قالوه، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، وقاموا له صفين، ولما مر بين صفّيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، ويصور أديب العربية ما كان فيقول: "صغائر الحياة قد أحاطت بمجد الحياة لتثبت الصغائر أنها صغائر، ويثبت المجد أنه المجد!ووقف المعنى السماوي بين معاني الأرض دون أن يعكر بها، فالشمس ينبسط نورها على التراب فلا يعفره التراب،وما هو بنور يضيء أكثر مما هو قوة تعمل عملها بالعناصر"[9].
هذا، وقد كان مع الرسول في رحلة الطائف زيد بن حارثة رضي الله عنه يدفع عنه ما استطاع، إلا أنه قد كثر الغوغاء والأشرار والدعّار الذين قعدوا له على طريقه؛ فكان إذا أزلقته الحجارة فقعد يتقيها، إذا بهم يأخذونه بعضديه فيقيمونه إمعاناً في الإيذاء حتى ألجؤوه إلى حائط -بستان- لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فخلص من شرهم بدخوله البستان، وفي البستان استظل عليه السلام بظل حبلة من شجرة العنب، وهو مكروب وجيع تسيل رجلاه دماً، ولشدة ما نزل به تحرك له الرحم عند عتبة وشيبة صاحبي البستان لما رأياه على ما كان عليه. ولما اطمأن في محله توجه إلى قيوم السماوات والأرض وقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"[10].
وبوقفة سريعة في وهج الدعاء يتكشف لك الدعاء؛ وقد تضمن كل مقومات الإيمان واليقين والرضا والتسليم والمعرفة بسنن الله في خلقه، وفيه من الرجاء ما يجعله يرى أن الذي أرسله لا يخذله، وأن جفاء أهل الأرض لا يعني تخلي السماء عنه، ويعلق الرافعي[11] فيقول: "فهذا فن الصبر لا الصبر فقط، وفن الحلم لا الحلم وحده". ويقول: "ولعمري لو نطقت الشمس تدعو الله لما خرجت عن هذا المعنى، ولا زادت على قوله: "أعوذ بنور وجهك" تلتمس من مصدر النور الأزلي حياطة وجودها الكامل"، وما تأخرت مظاهر الإكرام؛ إذ دعا الأخوان عتبة وشيبة غلاماً لهما يسمى عداساً، وقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.. وفعل عداس ما أمر به، ووضع الطبق بين يدي الرسول عليه السلام، وقال له: كل، ووضع عليه الصلاة والسلام يده ليأكل وقال: بسم الله، ثم أكل... نظر عداس في وجه النبي، وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!! قال له الرسول: ومن أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: نصراني وأنا من أهل نينوى، فقال: من أهل قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال: وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت من نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى؟ فمن أين عرفت وأنت أُميّ من أُمة أُمِّية؟ قال: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي. فأكب عداس على الرسول يقبل رأسه ويديه وقدميه... ولما رجع عداس إلى سيديه وسألاه عما كان منه مما رأياه، فقالا: لا يفتنك عن دينك، فدينك خير من دينه!!! ونافلة من القول أضيف أن عداساً لما أراد سيداه الخروج إلى بدر أمراه بالخروج معهما فقال: أقتالَ ذلك الرجل الذي رأيت في الطائف تريدان؟!! والله ما تقوم له الجبال.
ومضى بعد عداس في طريقه، فأرسل الله تعالى له ملك الجبال ليأمره بما شاء ليفعل في أهل مكة، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها [12]، تسأل الرسول: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟! فذكر ما كان من عبد ياليل وأخويه أبناء عمرو، وأنه انطلق بعد ذلك وهو مهموم، فإذا هو بقرن الثعالب قال: "فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني إن شئت، أن أطبق عليهم الأخشبين! قال له: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً". أجل إنه بعث بالإسعاد لا بالإشقاء، وبالإحياء لا بالإهلاك، وبالرحمة لا بالعذاب، همه أن يكثر العارفون بالله، المتعلقون بجلاله، المتململون على أعتابه، ونظره البعيد يرى الذرية في الأصلاب تعمر الأرض بالعبادة التي خلقنا الله من أجل القيام بها.
وبقي مما نحن فيه للدخول في مضمار حدث الرحلة المباركة أن نرصد كيف دخل صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة بعد رجوعه من الطائف. إن زيد بن حارثة رضي الله عنه قال للرسول لما أراد دخول مكة: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. ألا ترى في جوابه عليه السلام مطلق الثقة بنصر الله لمشروع الإضاءة العالمية، وأن الله بالغ أمره لا محالة؟ فبعد كل ما لقيه في الطائف أجاب بهذا الجواب، وكله طمأنينة إلى عاقبة أمر الرسالة التي كلف حملها يوم لقيه جبريل عليه السلام أول مرة في غار حراء، إنه يقين النبوة بوعد الله تعالى، ثم أرسل عليه السلام رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره، بناء على أن أخبار ثقيف سبقته إلى قريش، فرأى ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته، كيف لا وأمته من بعده تسير على هدي سيرته؟ فهو يشرع لها في كل الظروف. واستجاب مطعم لذلك، وعاد رسول الله إلى مكة يتابع مسيرة دعوته إلى الله جل جلاله. يقول صاحب السيرة الشامية[13] بعدما ذكر ما قاله زيد للرسول:... ثم انتهى إلى حراء، وبعث عبد الله بن أريقط ليجيره فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير على الصريح،فبعث إلى سهل بن عمرو فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم فأجابه إلى ذلك، وقال: نعم، قل له فليأت، فدخل صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج المطعم بن عدي وقد لبس سلاحه هو وبنوه ستة أو سبعة، فقالوا لرسول الله: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف، فأقبل أبو سفيان إلى المطعم فقال: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير. قال: إذن لا تخفر، قد أجرنا من أجرت، فجلس معه حتى قضى رسول الله طوافه، ثم انصرف إلى بيته. وقال محمد الغزالي رحمه الله[14]: وقيل إنّ أبا جهل سأل مطعماً: أمجير أم تابع؟ وقد استغلها أبو جهل وأخذ يتنادر بالموقف قائلاً: هذا نبيكم يا بني عبد مناف... ولما بلغ النبي ذلك قال: أما أنت يا أبا جهل فوالله! لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً.
إنّ رسول الله كان على ثقة بمستقبل الدعوة تتزلزل الجبال دونها مهما اكتنف حاضرها من شدائد... وجاء حدث الإسراء في تلك الظروف التي عرضنا منها ما تيسر، والرسول -عليه السلام- ناشط في تبليغ دعوة الله وبيان البصائر للناس، والآيات تتنزل تباعاً تسدد الخطا على الطريق، وتقص قصص العصور الخوالي، وتجلي قصة هذا الوجود العريض، وشؤونه الغابرة و الحاضرة. وإن كانت مكة قد أغلقت أبوابها في وجه الحبيب فإن السماء قد سارعت لتفتح أبوابها له ضيفاً كريماً؛ تتويجاً لما بذل من جهود مخلصة، وإعلاناً في الملأ الأعلى عن مكانته ومنزلته ممن أنزل عليه المنهج!! وهنا نجد نوع صلة بين أواخر سورة النحل، حيث جاء قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ *} [النحل: 16/127] ، ومطالع سورة الإسراء حيث تحققت الرحلة، وقد قال العلماء: الصبر هو التحمل للمكاره، والتحمل من جملة ما يؤدي إلى التجمل، ومنه ما ذكر في أول سورة الإسراء، فسبحان منزل القرآن ما أعظمه!!...
ونحن بين يدي الليلة الخالدة نرصد فيها طرفاً من ليل مكة.