أنت هنا

قراءة كتاب الليلة الخالدة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الليلة الخالدة

الليلة الخالدة

كتاب " الليلة الخالدة " ، تأليف الشيخ عبد الكريم تتان ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6

ليل مكة

فالمكيون ما إن يطل الليل على الكون حتى يتوافدوا زرافات ووحداناً إلى أنديتهم المتناثرة هنا وهناك حول الكعبة، فيقضون الساعات الطويلة فيها بين الأحاديث المختلفة، وكثيراً ما كانت تهب النسمات التي تحمل من رطوبة الليل ما تمسح عن وجوه السامرين لفح النهار، وعناء الهاجرة.

وهذه الأمسية من جملة الأماسي جاء المكيون -كدأبهم- يقطعون ليلهم في قصف ولهو، فكانت تتجاوب في قلب الظلام رنين ضحكات مجنونة، كأنها انطلقت من العفاريت، فتملأ أصداؤها الحس بمعاني التمزق والضياع، ضياع حياة أولئك الذين وقعوا من الوجود على شهواته، فإذا حياتهم حمأة آسنة، غاصوا فيها حتى ما يبين منهم شيء. "وينبري أحد الساهرين إلى كبراء قريش الذين ضمهم النادي، وقد بدت عليه السكينة، وهيمنت لغة الهدوء، ليقول بخبث ودهاء:

- من يصف لنا كيف لاقى أبناء أخينا في الطائف محمداً؟ ثم يطلق ضحكة ساخرة حملت بعض ما في صدره من حقد وحسد وكراهية.

ويصمت الجميع لحظات دارت فيها حماليقهم عن اليمين وعن الشمال تبحث حتى استقرت على وجه عتبة بن ربيعة، إذ كان هو المقصود بهذا السؤال. ويأخذ عتبة نفساً عميقاً ثم يقول:

- يا أبا الحكم! لقد رأيت محمداً وهو في الطائف بعدما لجأ إلى بستاني في ضاحية المدينة، كان الدم يسيل من قدميه، وإلى جانبه غلامه زيد قد فعل به ما فعل بمحمد وأشد؛ إذ كان يلقى عنه - كما قيل - الحجارة التي راح يرشقه بها الصبيان. واللات والعزى لقد قلت في نفسي لما رأيت وجهه، وما عراه من تعب وهم ونصب:"سيترك دينه هذا الذي جاءنا به، لا محالة، ولكن...." وصمت عتبة قليلاً يسترجع في ذاكرته بعض المعالم التي ندت، فقال أبو جهل بصوت عريض:

- ولكن ماذا؟! قال عتبة:

- ولكن وجهه الناصب ذاك ما لبث أن تفجر نوراً، أصبح كفلقة القمر، وكأن الشمس قد سكبت فيه ضياءها!! لست أدري بم كان ذلك؟ لست أدري!! غير أني رأيته بعدما جلس إلى ظل حبلة في الحائط رفع يديه إلى السماء، كأنه يدعو، لم أسمع ما قال، كل ما لحظته أنه أغمض عينيه، وتمتم، فتهلل منه الوجه، وشخب منه الضياء وفاض الأمل، راح يبرق بالبشر، وغاض ذلك النصب، وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن دماً لم يسل!

كان لقول عتبة في الحاضرين أثر عظيم، وسرت فيهم همهمة أطاشت لب أبي جهل، فبادر إلى القول قاطعاً الصمت الذي خيم على الوجوه، وخائفاً من أن يترك كلام عتبة في النفوس أثر التعاطف مع رسول الله:

- لا، إني لأحسبه سيتخلى عما جاءنا به من دين بعد ما لاقى ما لاقاه، إنكم لتعلمون فقده لعمه أبي طالب، ولزوجه خديجة، لم يبق له أحد يحميه منا أو يواسيه. وها هم أولاء أهل الطائف شنعوا عليه أمره، وردوا عليه دعوته رداً طالما حلمنا به، وتمنيناه،... وصمت قليلاً يتفحص الوجوه ويقرأ فيها عاقبة كلامه، وما أنبته في قسماتها.. ثم قال:

- تعلمون -أيضاً- أنه لم يجرؤ على دخول مكة إلا محتمياً، وكنا نود ألا يجيره علينا أحد، ولو لم يفعل المطعم ذلك لأكلت محمداً الوحوش الضواري، وتقاذفته الرياح الهوج، إن أمره -على ما أرى- قد خبا وضمر، بما قمنا به من تعاون، وبما ناصبناه به من عداء!!"[15].

وهكذا انقضى شطر من الليل، والساهرون يتجاذبون أطراف الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، ويديره شيطان قريش وفرعونها، وأخذ النعاس يدب إلى الرؤوس دبيباً وانياً فيثقلها، وراح يداعب أجفان القوم فتسترخي بعد أن يمسها خدر وفتور، ثم نامت مكة على بكرة أبيها، رقدت وخيم عليها صمت ثقيل يضاهي صمت المقابر، ولف جنباتها سكون يضارع سكون الأموات. غفت أم القرى بعد ليل ساهر صخوب، ونام كل شيء فيها إلا أنفاس النسيم الهفهافة التي حملت رطوبة الليل الموغل، وضوء القمر الساري المسكوب من الأعالي، وبريق النجم الغارق في لجة الغسق الواسع البهيم. وهناك -بجانب البيت العتيق- اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه عمه حمزة بن عبد المطلب، وابن عمه جعفر بن أبي طالب نائمين. كان صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان، فالعين منه نائمة وأما القلب فقد ملئ أنساً بربه، كان صلى الله عليه وسلم بعد أن لج أهل مكة في الإعراض والصد عن سبيل الله تعالى، ورأى تماديهم في النفور عن دعوة الحق، قد خرج إلى الطائف ليبلغ أهلها أمر الله، لكنه لقي -هناك- قسوة وفظاظة إذ صفوا له السفهاء صفين، وأخذوا يرشقونه بالحجارة حتى أدموه صلى الله عليه وسلم، وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يدافع عنه أحر الدفاع، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة حزيناً مهموماً من تقاذف الناس -بأيدي أنفسهم- في النار، وفي مكة كان المؤمنون يذوقون أشد أنواع البلاء، بل كان بلاء لا تطيق الراسيات حمل بعضه، وفي هذه الأثناء قبضت السيدة خديجة، ومات العم المنافح أبو طالب، وأقفرت الأرض من المواسي أو المدافع، ولكن السماء يقظى لا تنام.

الصفحات