كتاب " العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد " ، تأليف د.
قراءة كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد
مدخـــــل
عندما اسْتُقْبِلَ ابن رشد، أول مرة فيما يبدو، في قصر الخليفة «ابو يعقوب يوسف»، كما تحدثنا عن ذلك كتب التاريخ والأخبار، وأيضاً تواليف الرجال والطبقات(1)، كان للحدث وقع خاص لا لدى الرجلين فحسب، ومعهما أبو بكر بن طفيل باعتباره، بحسب الرواية نفسها، «راعي» ذلك اللقاء والممهد له، وربما أيضاً الداعي له والمشير به على الرجلين معاً، وإنما للحدث مكانته الخاصة، أيضاً، لدى المؤرخين ورجال الفكر والفلسفة والعلوم بإطلاق.
لا تنبثق أهمية هذا اللقاء/الحدث من مجرد حفاوة الاستقبال التي حظي بها أبو الوليد من قبل الخليفة، ولا فقط من كون كل واحد من الرجلين قد وقع، منذ أول لقاء بينهما، موقعاً حسناً من نفس صاحبه(2)، ولا أيضاً مما ترتب عن ذلك اللقاء من تبعات وما آل إليه من نتائج تتعلق، من بين ما تتعلق به، بإكباب ابن رشد على النظر في كتب أرسطو، وذلك بحسب الاعتقاد السائد الذي لا يخلو من سذاجة وقصور في النظر، بل ولا يخلو من تجن على ابن رشد وعلى الفلسفة بوجه عام(3)، وإنما يستمد اللقاء بين الفيلسوف والخليفة قيمته، أساساً، من أمر آخر يبدو، في نظرنا على الأقل، ذا أهمية بالغة بصرف النظر عن إمكان الموافقة أو عدم الموافقة على الآراء السائدة بهذا الخصوص، وهو أمر لم يلفت عناية الدارسين، بحسب ما انتهى إليه علمنا في الموضوع، إذ لم يقف ولا واحد منهم على الموضوع الذي كان موضع فحص، أو مقاولة، بين الرجلين، باعتباره الموضوع الذي استأثر بكل الزمان الذي استغرقه اللقاء بين الفيلسوف والخليفة، أو أن هذا الموضوع حظي بأن كان هاجس الجلسة بكاملها، أو موضوعها الرئيس على الأقل، أو أنه قد شكل، في أضيق الحدود، لحظة إثارة الكلام والمقاولة بين ابن رشد والخليفة(4).
يتمثل موضوع المقاولة، هاهنا، في أحد المجالات الفلسفية الكبرى والأساسية، بل وذات الحساسية البالغة، لا لما لها من امتدادات علمية فلسفية فحسب وإنما، أيضاً وربما أساساً، لما لها من انعكاسات وأصداء تيولوجية دينية. وليس هذا المجال سوى مجال القول في السماء والعالم، ولاسيما في إحدى مسائله الكبرى والأساسية وهي مسألة مدى كون السماء قديمة أو حادثة لدى الفلاسفة القدامى، أو الأوائل، أولاً، ومنهم بوجه خاص أرسطو وأفلاطون، ولدى فلاسفة الإسلام، ثم عموم أهل الإسلام، بعد ذلك.
يقول عبد الواحد المراكشي، حكاية عن «أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي»، وهو فيما يبدو من تلامذة ابن رشد(5): إن الخليفة لما لقي أبا الوليد بن رشد فاتحه، أو كما يقول ابن رشد على لسان أبي بكر هذا:
«كان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي ونسبي، أن قال لي ما رأيهم في السماء، يعني الفلاسفة، أقديمة هي أم حادثة... فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم...»(6).
يستفاد، من ذلك، أن موضوع السماء والعالم عموماً، ومطلب القدم أو الحدوث منه بوجه خاص، كان من الموضوعات الأساسية التي تشغل جمهور أهل النظر من فلاسفة وغيرهم، فقهاء كانوا أو رجال سلطة وسلطان بالمعنى السياسي والفقهي- القضائي للعبارة. ولقد كانت المذاهب الفلسفية، بهذا الصدد، أكثر إثارة للاهتمام والحفيظة في آن واحد، حتى إن أبا يعقوب يوسف لم يكن ليقدم على ذلك أي موضوع ولا أية مسألة.
لعل ذلك إنما يرتد، فيما يرتد إليه بوجه خاص، إلى أن هذه المسألة كانت من بين المسائل الثلاث التي كفَّر فيها الغزالي الفلاسفة، خاصة وأنه اعتبرها، في تهافت الفلاسفة على خلاف وضعها الطبيعي، مسألة ميتافيزيقية لاطبيعية(7)، مع العلم أن حجة الإسلام كان من بين الحجج والدعائم النظرية الكبرى التي بنى عليها الموحدون دولتهم ولو في بدايات التأسيس لهذه الدولة، كما تشهد بذلك عدة دلالات وقرائن(8).
مهما يكن من أمر هذا الإشكال فلعل مما لا يمكن مناقضته، فيما نحن بسبيله في هذا المقام، أن جمهور النظار ورجال الدين والسياسة، ومنهم الخليفة أبو يعقوب باعتباره أمير المومنين، يريدون معرفة مقالات الفلاسفة في مسألة من أعوص المسائل الفلسفية، وهي هل السماء قديمة أو حادثة؟ غير كائنة أو كائنة؟ لا بدء لها أم أنها، على العكس من ذلك، ذات بداية؟ لامتناهية أو متناهية؟