كتاب " العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد " ، تأليف د.
قراءة كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد
لقد ضاعف من تأكيد هذه الأهمية أن الخزانة الرشدية العربية جعلت كتاب السماء والعالم يتفرد، من بين كل شروح ابن رشد الطبيعية، بقيمة خاصة لكونها حفظت منه كل هذه الأنماط الثلاثة، وذلك على خلاف كتاب السماع الطبيعي الذي لم يبق منه إلّا المختصر أو الجوامع، دون التلخيص والشرح، وأيضاً على خلاف كتاب النفس الذي لم يصلنا منه في أصله العربي إلّا المختصر والتلخيص(25)، فضلاً عن كتابي الكون والفساد والآثار العلوية اللذين لم يضع منهما أبو الوليد نفسه إلّا المختصر والتلخيص دون الشرح(26)، وكذلك على خلاف كتاب الحس والمحسوس الذي لم يضع له ابن رشد إلا المختصر(27)، وعلى غير مآل كتاب الحيوان الذي لم يصلنا شيء مما كتبه فيه(28).
نعم، إن شروح «السماء والعالم» لم تسلم كلها من عبث الزمان، فإذا كان بأيدينا النص الكامل لكل من المختصر، أو الجوامع، والتلخيص(29) فإننا لا نملك، من الشرح الكبير لكتاب السماء والعالم، إلّا شذرات من المقالتين الأولى والثانية لعلها وإن كانت، بحسب الظاهر من أمرها، معظم ما في المقالة الثانية فإنها لا تمثل إلّا جزءًا يسيراً جداً مما في المقالة الأولى(30) من مطالب ومواقف، وإن كان بعض من نظر، نظراً ما، في الموضوع يرى خلاف هذا الرأي، وهو: إن ما ضاع من المقالة الأولى ليس إلا مباحث قليلة(31)، في حين كان مآل المقالتين الثالثة والرابعة الضياع التام.
لعل مما يثير الدهشة، في هذا المقام، أننا لا نعلم العلة في أن بعض المهتمين بالدراسات الرشدية لا يذكرون هذا الشرح عندما يتحدثون عما بقي من شروح ابن رشد بالعربية وعما لم يبق منها إلا بالعبرية أو اللاتينية أو هما معاً، إلّا أن نقول: إنه لم يتناه إلى علمهم العثور على بعض أجزائه في لغته الأصلية، مع العلم أن هذا لم يعد سراً منذ ما لا يقل عن عقدين من الزمان(32).
يبقى كتاب السماء والعالم، مع ذلك، ومن خلال تواليفه الثلاثة، النص الأكثر حظاً من بين كل تواليف أبي الوليد لا الطبيعية فحسب، كما أوضحنا ذلك فيما تقدم، وإنما الميتافيزيقية أيضاً، حيث لم يصلنا تلخيص ما بعد الطبيعة الذي يعتبر من النصوص الرشدية المفقودة في أصلها العربي(33).
لا يداني كتاب السماء والعالم، بهذا الصدد، إلّا كتاب البرهان الذي حفظت منه المكتبة الرشدية العربية كلاً من المختصر والتلخيص والشرح وإن كان لم يسلم، مثله في ذلك مثل شرح السماء والعالم، من بتور وخروم امتدت إلى المقالة الثانية كاملة حول الحد وبعضاً من أجزاء المقالة الأولى حول البرهان(34).
لعل مما يؤكد أهمية النظر في منزلة العالم بين التناهي واللاتناهي، ومن خلاله في كتاب السماء والعالم، لدى ابن رشد، بوجه خاص، إن تواليف أبي الوليد في الموضوع تكاد تكون، ضمن الواصل إلينا من المتن القديم الشارح لكتاب أرسطو في السماء، الإرثَ الوحيدَ المتميز بكل الثراء والخصوبة المطلوبة، كماً وكيفاً، بهذا الخصوص، ومن ثم، في تاريخ العلم والفلسفة خلال الأزمنة القديمة والوسيطة، ولا سيما منهما علم وفلسفة السماء والعالم، اللهم إلّا إذا استثنينا، مع غير قليل من الحيطة والحذر، كتاب «سمبليسيوس» في «السماء»، وهو الكتاب الذي لا نجد له ذكراً لدى المفهرسين القدامى في التراث العربي الإسلامي(35)، كما أننا لا نقف له على أثر ضمن ما عثر عليه اليوم من مترجمات الكتابات الإغريقية والقديمة، عموماً، إلى العربية، بل إننا لا نجد له أثراً يذكر لدى ابن رشد نفسه بالرغم من أهمية بعض آرائه ومواقفه مما سنشير إليه في مواضع لاحقة أليق به مما نحن الآن بسبيله، وإلّا إذا استثنينا، أيضاً، كتاب السماء الذي وضعه «طيوفراسط» والذي يذكر فيه سماء أرسطو، كما يخبرنا بذلك «زيلر» وينقله عنه «هاملان»(36)، مع العلم أنه إذا كانت بعض الفهارس القديمة تتحدث عن أن طيوفراسط قد وضع كتاب «السماء»، مثلما نقف على ذلك لدى «ديوجين اللايرسي»(37) فإن الفهارس العربية القديمة لا تحدثنا عن هذا الكتاب ولا عن ترجمته إلى العربية(38)، مثلما أننا لا نجده من بين ما حفظته الخزانة العربية مما أمكن العثور عليه اليوم من تلك المحفوظات، وذلك أمام ضياع شرح الإسكندر على كتاب السماء سواء في أصله الإغريقي أو في ترجمته العربية، وهو الشرح الذي ينقل إلينا «سمبليسيوس» شذرات منه في كتابه السالف الذكر(39)، وإن كان ابن النديم لا يحدثنا، في لحظة أولى، أي بمناسبة كلامه عن كتب أرسطو، إلا عن شرح الإسكندر لبعض من المقالة الأولى دون أن يخبرنا عن ترجمته إلى العربية، إن كان ذلك قد حدث، ولا عن تولي أحد المترجمين مهمة نقله إلى لغة الضاد، الأمر الذي قد يستفاد منه أن هذا الشرح، الذي يبدو وكأنه لا يفي بالغرض، لم يكن موضع عناية ولا واحد من المترجمين حيث نقرأ قول ابن النديم:
«وشرح الإسكندر الأفروديسي من هذا الكتاب (أي كتاب السماء) بعض المقالة الأولى»(40).
على أن ابن النديم نفسه وهو يتكلم عن «متى بن يونس»، يذكر أن «متى»
«نقل كتاب تفسير الإسكندر لكتاب السماء»(41).
معنى ذلك، أن شرح الإسكندر لكتاب السماء قد نقل إلى العربية. ولعل الإسكندر، بمقتضى ذلك، قد أنجز شرحاً للكتاب بكامله لا بعضاً من المقالة الأولى منه فحسب، كما قد يفهم من الكلام السابق لابن النديم، وهو ما لم يثر، فيما يبدو، انتباه الدارسين المعاصرين، مثلما نقف على ذلك لدى عبد الرحمن بدوي الذي اكتفى بالوقوف عند النص الأول دون أن يعرض للنص الثاني الذي أوردناه نحن، مما يعنى أن الرجل لم يكن يستثمر كل المواضع الممكنة، أو أنه لم يكن يقرأ كل ما يمكنه من ذلك، فغاب عنه التفكير في الاحتمال الثاني الذي لا نرى مانعاً في إمكان وقوعه أو جوازه(42).
لا يختلف مصير شرح ثامسطيوس لكتاب السماء عن مصائر كثير من شروح غيره على الكتاب نفسه، ولاسيما منها شرحا الإسكندر وطيوفراسط وفيلوبونوس، أو يحيى النحوي كما لقبه العرب المسلمون نقلاً عن اللاتين والمسيحيين أنفسهم(43). فإذا كان لثامسطيوس منزلة خاصة في فعل الشرح والتفسير، إلى حدود أنه يعتبر نفسه مبدع هذا الفعل،وذلك ما لا يوافقه فيه بعض الدارسين المعاصرين بدعوى أن من الخطأ ادعاء أن الشرح قد اكتمل مع ثامسطيوس، إذ إن الأفلوطينيين هم الذين سوف يضيفون إليه أبعاداً جديدة(44)، وإذا كان ثامسطيوس قد وضع شرحاً لكتاب السماء، كما أنه إذا كان هذا الشرح، ومكان صاحبه من الشرح والتفسير مكانه، قد نقل إلى العربية(45)، إلّا أنه، مع كل تلك الاعتبارات، مفقودسواء في العربية أو في لغته الأصلية، وهي الإغريقية، وإن كانت قد بقيت منه الترجمة العبرية التي تمت عن الترجمة العربية القديمة، وكذا الترجمة اللاتينية التي تمت، هي نفسها، عن نظيرتها العبرية فكانت، لذلك، ترجمة ضعيفة جداً بحسب المهتمين(46).
يستفاد من القول السابق إن شرح ثامسطيوس لكتاب السماء قد ترجم إلى العربية، دون أن نعلم شيئاً دقيقاً ولا ذا بال عن هوية مترجمه هل هو، بالضبط، يحيى بن عدي أم أنه شخص آخر اكتفى «يحيى» بإصلاح ترجمته، كما يفهم ذلك من كلام ابن النديم، إذ يقول:
«ولثامسطيوس شرح الكتاب كله، نقله أو أصلحه يحيى بن عدي»(47).