قراءة كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد

كتاب " العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

ومن ثم فاللامحدود على خلاف ذلك، أي أنه الفضاء الذي لا يمكن أن نمسك فيه حجماً أو طولاً بالقدر الذي نرغب فيه.

وبالجملة فمفهوم اللامتناهي يتقاطع مع عدة مفاهيم أخرى متاخمة له أهمها اللامحدود واللامحدد واللامتعين واللامعرف وما لا حاصر له... إلى غير ذلك مما ليس من اليسير تمييزه بسهولة عما هو غير متناه مما سنشير إليه فيما يلي من أقاويل ومناظرات(15).

بيد ان هنالك مسلكاً آخر يمكن، من خلاله، تأسيس أهمية اللامتناهي بموازاة مع المتناهي وربما قبله لدى ابن رشد، وهو المسلك الذي يذهب فيه أبو الوليد، في مختصر السماع الطبيعي، إلى النظر في اللامتناهي دون المتناهي، وذلك في مستهل المقالة الثالثة حيث يخص ما لانهاية له بالفحص مشيراً إلى أن بعض معانيه إنما يقال عليها اللامتناهي باستعارة، الأمر الذي يستفاد منه أن معانيه الأخرى التي لا تقال باستعارة فهي تقال على نقيض ذلك وبخلافه، أي على الحقيقة وبتقديم(16). ذلك ما يستفاد منه، أيضاً، إمكان انطباق التمييز الدلالي نفسه على مجال صلاحية لفظ التناهي الذي لا يخلو، هو كذلك، من أن يقال باشتراك لا بتواطؤ، حيث إن القول بتناهي العالم في العدد لا يحتمل الدلالات نفسها التي يقال فيها إنه متناه في العظم أو المقدار، كما أن القول بتناهيه عددياً ككل ليس هو عينه القول بأنه متناه في العدد من جهة الاسطقسات أو من جهة العلل والأسباب. لكن ما يجب التأكيد عليه، في هذا المقام، هو أنه إذا لم تكن الوحدة في التناهي، ها هنا، وحدة تواطئية فهي، على الأقل، وحدة ترتبط بالموضوع، أي بالعالم، إذ مما لا يجوز أن يختلف فيه أن ابن رشد يقول بأن العالم متناه من جهة العدد والعظم والعلية وأنه، بخلاف ذلك، غير متناه من حيث الحركة والزمان والوجود.

لعل الموقف الرشدي، إذن، وكما ألمعنا إلى ذلك آنفاً، إنما يتميز، عن غيره من المواقف في تاريخ الفلسفة، في هذا الصدد، بالجمع بين فكرتي التناهي واللاتناهي، وذلك تبعاً للأصل الذي يتعامل معه، وهو الموقف الأرسطي، دون أن نجعل منه، كما سنؤكد على ذلك في غير ما موضع من عملنا هذا، نسخة طبق الأصل لهذا الأصل، لأن من أهم موجهات هذا الموقف الفضاء العربي الإسلامي الذي يوافق هذا التصور الأرسطي في القول بأن العالم متناه، لكنه، من جهة أخرى، لا يشاطره الرأي فيما يخص اعتناق فكرة اللاتناهي بالنسبة للإله على الأقل، الأمر الذي يضع ابن رشد بإزاء غير قليل من الإحراج، كما سنقف على ذلك فيما بعد، ولاسيما منها الإحراجات العقدية الاجتماعية بل والعلمية بمراعاة ما يذهب إليه بعض من التفتوا إلى شيء من أقاويل ابن رشد، من النظار المعاصرين، إذ يقولون بكونه لم يكن ينصت إلى التطورات التي عرفها عصره سواء في المغرب أو المشرق(17)، وإن كان بعضهم الآخر يميل إلى نقيض ما يجنح إليه هؤلاء(18).

مهما يكن من أمر هذا الصراع الذي لا نزعم أننا سنقدم فيه حلولاً سحرية لا، فقط، لأنه لا يدخل، مباشرة، في مجال اهتمامنا، وإنما أيضاً لأنه مما يحتاج إلى فحص دقيق ومتواصل نأمل أن يجد من يوجه إليه عنايته بما يستحق من جدية وجدة، في آن واحد، بعيداً عن التعاطف أو المصارعة مع ابن رشد مما لا مجال فيه للعلمية والرصانة المتوخاة في مثل هذا المقام.

وبالجملة، وبصرف النظر عن المعطيات السابقة، فإذا كان ما نرومه من الكلام في منزلة العالم بين التناهي واللاتناهي، عند ابن رشد، هو ما أشرنا إليه، فيما تقدم، وإذا كان هذا الكلام يحيلنا، بالضرورة، على مختلف الإحالات السالفة الذكر، من علمية وفلسفية واجتماعية ونسقية، فإننا، ونحن على وعي تام بهذه التقاطعات والاستلزامات، لا نزعم، إذ نريد الإقدام على دراسة مفهوم العالم، أو صورته، لدى ابن رشد، من خلال مسألة التناهي واللاتناهي على وجه التحديد، أننا سنوفي كل العناصر المشار إليها حقها من الفحص والنظر، بقدر ما سنعمل على مراعاتها انطلاقاً من المتن الرشدي ذاته، وذلك بمراعاة تطوراته المختلفة وانعطافاته المتعددة في اتجاه كل التواريخ التي يحيل عليها ويمتح منها، وهي، أساساً، تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم وتاريخ المذاهب والأفكار وتاريخ المتن في اتجاه تاريخ النسق.

لا يمكن النظر في قضايا الفلسفة الرشدية ومسائلها دون ارتياد النهج الذي نرسمه في هذا العمل، وهو المصير من المتن إلى النسق. إننا إذ نجعل المتن نقطة ارتكاز هذا المسار، وكذا لحظة انطلاقه الأولى، فلأننا ندرك الخطورة التي يكتسيها في فلسفة ابن رشد، لا فقط لأن فيلسوف قرطبة ومراكش قارئ لمتن آخر هو المتن الأرسطي، بوجه خاص، وكما هو معلوم لدى جمهور النظار، وإنما، أيضاً وأساساً، لخصوصية المتن الرشدي ذاته من حيث جسامة المعضلات التي يثيرها بين يدي الدارس، وهي المعضلات التي يؤكد عليها كل قراء ابن رشد، والتي اجتهد الأستاذ المرحوم «جمال الدين العلوي» وجاهد في بيانها بما يكفي من الجدية والجلاء في كتابه حول المتن الرشدي(19).

من هنا، لا بد للفحص في القول الرشدي في العالم من أن يسلك المسلك ذاته، فننطلق فيه، أولاً، من المتن الرشدي وما يقدمه من معطيات، ثم لا مناص ثانياً، من مراجعة المتن الأرسطي للوقوف على ما بين المتنين من أشباه ونظائر، أو، على خلاف ذلك، من فروق وتباعدات، مع مراعاة متون أخرى ممكنة، وذلك في مختلف الصياغات والترجمات الممكنة، للخلوص، من ذلك كله، إلى ما نستطيع معه القول، ببعض الاطمئنان، بأنه القول الرشدي في العالم، وفي مسألة تناهيه أو عدم تناهيه على وجه الخصوص.

وتحاشياً للخوض في مشكلات المتن بكامله، لعواصتها ولعدم حاجتنا إليها ككل، فمن الواجب أن نقصر النظر، فيما نحن بسبيله، على النص أو النصوص ذات الصلة المباشرة بموضوع العالم، وما يحوم في فلكه من مسائل ومقولات وإشكالات، باعتباره المقصد الأسنى والمرام الأقصى لهذا العمل.

فما هو هذا النص أو النصوص التي يستحيل، بدونها، مباشرة قول جدي وجاد في تناهي العالم أو لاتناهيه لدى ابن رشد؟ وما الإشكالات النصية أو المتنية التي تثيرها وتعتمل فيها؟ وما المحددات التي تفرض اختيارها وتصديرها على غيرها من النصوص؟

تحاشياً للموقف الفلسفي العام الذي يطابق، أو يكاد، بين النظر في مسائل مفهوم العالم وقضاياه وبين الفلسفة ككل، على أن الفلسفة ليست، بالنسبة لهذا الموقف، شيئاً غير القول في العالم أو البحث فيه(20)، وهو الموقف الذي قد نجد صداه يتردد لدى ابن رشد نفسه، حيث يجعل مصير الفلسفة ذاتها رهيناً بمصير النظر في العالم، ومن ثم، فهي قد لا تكون برهانية، في تقديره إلا لنظرها في العالم، وبالضبط في إحدى مشكلاته المركزية، وهي قضية الخلق(21)، بصرف النظر عن ذلك كله فنحن إنما نوجه عنايتنا، في هذا العمل، إلى أحد المواقف الراسخة في التقليد الفلسفي والعلمي الأرسطي والمشائي عموماً، وهو الموقف الذي يرى أن النظر في مفهوم العالم إنما ينتمي، بالقصد الأول، إلى كتاب السماء، أو في السماء، أو السماء والعالم بحسب الترجمة العربية القديمة لهذا الكتاب(22).

من هنا، يندرج هذا القول، بالطبع وبالذات، في مجال الفلسفة الطبيعية، أو العلم الطبيعي. لذلك يقتضي النظر في مفهوم العالم ومسائله النظر في كل تواليف المنظومة الطبيعية، من منطلق أن كل واحد منها يمس، أو يعالج، جانباً من جوانب هذا المفهوم وتلك المسائل، بل إن من النظار من يرى أن كتاب «السماء» يفحص في موضوع الفلسفة الطبيعية، أي في الجسم، على أن هذا الموضوع هو موضوع هذه الفلسفة ككل(23).

لهذا السبب، لا بد للناظر في مفهوم العالم لدى ابن رشد، أو أيضاً لدى غيره من المشائين بدءًا من أرسطو، أن يحصر الإشكال المنظور فيه لئلا يجد نفسه وهو تتقاذفه الإشكالات المتعددة، وتعبث به السياقات المختلفة، فيفلت منه الزمام، ولا سيما أن تمام الفحص في هذا المفهوم يحتاج، أيضاً، إلى مراجعة النصوص الميتافيزيقية والمنطقية وغيرها من تواليف ابن رشد الفلسفية والعلمية، بل من نصوص شارحة وموضوعة في آن واحد.

لقد وقع اختيارنا، من هذا المنطلق، على إشكال التناهي واللاتناهي في العالم، مع ما يتميز به من خصائص، وما يثيره من شكوك وعواصات، وما له من انعكاسات في المتن والفلسفة الرشديين، على أن هذا الاختيار ليس مجرد صدفة، ولا تابعاً لمزاج، وإنما تفرضه المنزلة التي يحظى بها هذا الإشكال، فعلاً، لدى أبي الوليد بن رشد ذاته، وذلك في أفق سنوح الفرصة للنظر في الإشكالات التي يقتضيها تمام القول في مفهوم العالم وصورته ككل لدى ابن رشد.

ليس معنى ذلك تضييق فضاء الفحص بتقليص المتن المفحوص فيه، بل لا بد من الاستعانة بكل التواليف التي يقتضيها القصد العام والأساس للقول في مفهوم العالم، عموماً، وفي معضلة تناهيه أو لاتناهيه، بوجه خاص، سواء كانت تلك التواليف طبيعية أو ميتافيزيقية أو منطقية أو غير ذلك. لكن لا بد، في مقابل ذلك، من توجيه العناية إلى النص، أو النصوص، الأكثر قرابة من موضوع العالم ككل ومن الإشكال الذي نحن بصدد النظر فيه، وهو، على وجه الدقة، إشكال التناهي واللاتناهي.

لا يند القول الرشدي في العالم عما نلفيه لدى غير أبي الوليد من المشائين تأسياً، في ذلك، بتعاليم المعلم الأول وأقاويله. ذلك أن فيلسوف قرطبة ومراكش يخص كتاب السماء والعالم بمهمة النظر في مفهوم العالم ومسائله. ولعل مما يؤكد الأهمية البالغة لهذا الكتاب وموضوعه، لدى ابن رشد، أنه من التواليف الأرسطية القليلة التي حظيت، من قبله، بعناية تامة، إذ إنه وضع له الأنماط الثلاثة من الشروح المعروفة في المتن الرشدي، وهي المختصرات أو الجوامع، أو الشروح الصغرى والوجيزة، ثم التلاخيص أو الشروح الوسطى، فالتفاسير أو الشروح الكبرى، وهي التي يكون شرحها على اللفظ، بحسب عبارة ابن رشد نفسه(24).

الصفحات