كتاب " أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون ، تأليف غي سورمان ، ترجمة مرام المصري ، والذي صدر عن دار المؤسسة
أنت هنا
قراءة كتاب أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون
توكفيل شرقيّ
بعث الباشا محمد عليّ بعثة من أمراء شباب، اعترافاً بهيبة فرنسا، أرض السلاح والعلوم والقوانين· أمَرَهُم أن يعودوا مُحَمَّلين بِتِبْر ذَهَبِ المعارف الخالية من شوائب المسيحية المخالفة للإسلام الذي يَظَلُّ تَفَوُّقُهُ غيرَ مشكوكٍ فيه· هكذا كانت تعليماته· وكي لا يَخْلُد الأمراءُ للَّهْوِ والتسلية فقد عهد بهم الباشا إلى إِمامٍ شابٍّ موهوب، وهو رفاعة· وقد تفوّق عليهم جميعا·
بمجرد وُصول رفاعة إلى باريس، استَطاع المستشرقون الذين كانوا يُهيْمِنون على الجامعة الفرنسية، من أمثال جومارد، رفيق بونابرت في مصر، وسيلفستر دو ساسي، مُؤسّس مدرسة اللغات الشرقية، مُعَايَنَته· تعلمّ اللغة الفرنسية بطريقة أفضل من رِفاقِه، وركّز فِكْرَه على دراسة العلوم، وترجمَ المؤلَّفات العلمية الأساسية في ذلك الوقت إلى اللغة العربية· إنّ ذكاءَهُ العالي وأناقته الطبيعية، بالإضافة إلى تذوقه لِكُلّ ما هُوَ دخيلٌ، فَتح له، بالطبع، أبواب كلّ الأكاديميات والصالونات· إننا نعرف هذا من رفاعه نفسِهِ، إذ إنه سيكتبُ مذكراته الوصفيّة عن فرنسا لأجل الباشا كي تُساهِم في تحديث مصر· ومن خلال مُقارَنَتِه منهجه بمنهج المنقّبين عن الذهب، نُزُولاً عند رغبة محمد عليّ، سمّى كتابَهُ تخليص الإبريز في أخبار باريز؛ وقد كان أوَّلَ كِتَابٍ يصف المجتمعَ الغربي يُنشَر في العالَم الإسلاميّ على الإطلاق·
لم يُتَرْجَم كِتابُ تخليص الإبريز في أخبار باريز إلى اللغة الفرنسية إلاّ سنة 7 5 9 1، مِن قِبَل جامعيّ قبطي مصريّ، أنور لوقا ولكنّ شُهرَة الكِتَاب كانت، ومنذ البدء، كبيرةً؛ فمنذ سنة 3 3 8 1 قدمّت الجرائد الفرنسية تغطيات عنه، ولكنها كانت أحياناً حافلةً بالمعاني الخاطئة· وبعد خمسين سنة، كَتَبَ إرنست رينان، الذي كان ضالعاً في اللغات السامية، واعتماداً على انتقادات الصحافيين الذين لم يكونوا يتحدّثون اللغة العربية، بخصوص رفاعة، أنّ كِتَابَهُ يُبيِّنُ عدمَ تَوافُقِ الإسلام والعِلم· يقول مُختَتِماً رأيَه في سنة 3 3 8 1: إنّ المُسلِمَ له حقدٌ على العلم بينما يُوضّحُ رفاعة نقيضَ هذا تماماً؛ ولكنّ رينان كان قد اخترع مفهوم صراع الحضارات قَبْل قرن من نجاح تعبيره المُعاصِر؛ لقد تَجَاوَزْنَا قرناً من الأحكام المُسْبَقَةَ ما بين الإسلام والغرب·
إنّ كتاب تخليص الإبريز في أخبار باريز، مثله مثل شخصية مُؤلِّفِهِ، يستحضر مُراقبا وراصدا آخَر للحداثة، غَادَرَ فرنسا في نفس الفترة نحو الجمهورية الناشئة في الولايات المتحدة الأمريكية، والبَاحِث، هوَ الآخَر عن المستقبل· كان توكفيل ورفاعة من نفس العمر، وكانا يمتلكان فُضولاً متشابِها، ويتقاسمان نفس المَخَاوِف الدينية؛ كان تَقَصّيهما مُتماثِلاً· استقصى توكفيل، في أمريكا، دُرُوبَ الديموقراطية مُتَسَائِلاً عن تَوَافُقِهَا مع قناعاتِهِ الليبرالية؛ أما رفاعة فقد رَصَدَ الحداثةَ آمِلاً في أن لا تُضايِقَ أو تُقْلِقَ إيمانَهُ· وإذا تابَعْنَا المُوازنة بين مُراقِبَيْنَا سوف نُلاحِظُ بأنّ توكفيل يشعر بالقلق من الصدمة القادمة بين مذهب المُساوَاة الأمريكيّ والليبرالية الفرنسية، بينما يَتَسَاءَلُ رفاعة عن كيفية المصالَحَة ما بين الحريّة على الطريقة الفرنسية وما بين العدالة التي يرى أنَّهَا عِماد العالَم الإسلاميّ· وهي قاعدةٌ تيولوجية(دينية) لم تَكُن وَاقِعاً اجتماعياً لا في زمن رفاعة ولا في زمنا نحنُ···
في بحثه عن تواؤمٍ بين الحداثة والإسلام، لا يَعْرِضُ رفاعة تَجْديدَهُ الذي يرفعه إلى الباشا إلاّ مُعتَمِداً استشهاداتٍ قرآنيةً· كان رفاعة مُسلما جيدا، بكل تأكيد، ولكنه كان حَذِراً، فقد كان يعرف حق المعرفة أنّ أيَّ مشروعِ إصلاحٍ لا يمكن إدخاله إلى مصر بدون موافقة المرجعيات الدينية في الأزهر، وبأنّ الإصلاحات التي تَصْدِم كثيراً عاداتِ شعبِهِ محكومٌ عليها بالفشل·
بعد عودته النهائية إلى القاهرة، وَاصَلَ رفاعة عَمَلَهُ التحديثيّ من خلال الكتابة والعمل العمومي، في خدمة الباشا، ولم يَحِدْ أبدا عن هذه الطريق، فقد كان مسلماً وحداثيّا ، كان وَرِعاً وعالِماً· وقد أنْكَرَ رفاعة، وإلى آخِر رمق من حياته، كلَّ تناقُضٍ بين القرآن والتقنيات التي هي أَسَاسُ التفوق الماديّ -وليس الروحانيّ- للغرب؛ إنّ نجاحَ إصلاحات رفاعة يرتَكِز على احترام معتقدات مُعاصِرِيهِ· لقد تصرّفَ على عكس ما تصرّف به أنصارُ التَقَدُّم العنيف، من أمثال كمال أتاتورك في تركيا ورضا بهلوي شاه إيران أو بورقيبة في تونس، الذين تجاهلوا، في القرن الذي تلاه، المعتقدات الدينية للمسلمين، وتسبّبُوا في إغضاب شُعوبِهِم·
لقد ذهب رفاعة بعيداً في احترام الإسلام، إلى حدّ ممارسة رِقابة ذاتية على نفسه حينَ تستدعي الضرورةُ ذلك· لقد أدرك في باريس بأنّ الأرضَ، وعلى عكس ما يَرِدُ في القرآن، تَدُورُ حول الشّمس، وليس العَكسُ· ولم يفعل القرآن، مثله مثل الكنيسة في القرون الوسطى، سوى استعادة علم الفلك المغلوط لـبطليميوس في هذه الحالة الخاصّة، فضَّلَ رفاعة ألاّ يتحدث عن هذا· ولحسن حظّه فقد كان يَجهلُ نظرية داروين عن التطور، والتي هي أكثر تناقُضاً مع القرآن، والتي تَظَلُّ، إلى يومنا هذا، مرفوضةً في الجامعات الإسلامية(وهي مرفوضة، أيضا، في بعض المَدارِس الأمريكية!)· فهل كان يُمارِسُ الشكّ؟ لا نَعرِفُ، ففي الإسلام لا يجوزُ إظهار الشكّ أمام الجمهور، لا في زمننا ولا في زمن رفاعة ألَيْس هذا التجنّبُ للنقد الذاتي هو الذي يتسبّب في انعدام الوَصْل الدائم بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي؟ في كثير من الأحيان، وسنَعود لاَحِقاً لهذا الموضوع·
اعْتُبِرَ رفاعة، ومنذ ملحمته الفرنسية، كَرَائِد رمزي لكلّ المثقفين المصريين التجديديين والتقدميين، الحريصين على المحافظة على التفرّد الثقافي لمصر· فمن نجيب محفوظ إلى طه حسين أو جمال الغيطاني في القرن العشرين، فإنّ معظم المثقفين يعتبرون أنفسَهُم أبناء رفاعة إنّ تقليد الرحلة التعليمية التي بدأها في الغرب، ستستمرّ خلال ستة أجيال؛ وستعرف توقفا بسبب العاصفة المعادية للإمبريالية التي ستجتاح العالمَ العربي في سنوات الخمسينات·