كتاب " أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون ، تأليف غي سورمان ، ترجمة مرام المصري ، والذي صدر عن دار المؤسسة
أنت هنا
قراءة كتاب أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون
في المدرسة الفرنسية
لنعد إلى كتاب رفاعة، ليس من أجل وضع كلامنا محلّ قراءته، ولكننا نُنقِّبُ من أجل رصد والتقاط انشغالاتِهِ الأساسية· فهي تظلُّ، بشكلٍ غريب، مُشابِهة لانشغالات المصريين المُعاصِرين؛ من خلال قراءته، يبدو أنّ التاريخَ يتلعثم أو أنه لا ينجح في الانطلاق·
الملاحظة الأولى التي استرعت انتباه رفاعة هي استتباب الأمن في فرنسا، حيث النظام تلقائيٌّ ومرئيٌّ في كل مكان· دَوَّنَ في إحدى مقاهي مرسيليا أنّ كل فرد في المقهى له وظيفةٌ محدَّدَةٌ؛ فأمينةُ الصندوق مسؤولة عن الصندوق، وصاحب المقهى يعطي الأوامر، والنادلون يقومون بالخدمة، والطلبات تَصِل إلى الزبناء في أوقات معقولة وبثمن مُتَّفَق عليه· إنّ عقلانية الفرنسيين في كل المناسبات لم تتوقف عن إدهاش رفاعة خلال إقامته· وفي هذا المقهى بمارسيليا سيكتشف فعالية هذا التوزيعَ، الذي أطلق عليه اقتصاديو تلك المرحلة تقسيم العمل، فهو أساسيٌّ للإنتاجية في الغرب· يلتجئ رفاعة إلى هذه الحادثة الصغيرة كي يُطلِعَ قُرّاءً مصريين كانوا يترددون على مَقَاهٍ كان من الصعب أن تَتِمَّ خدمتُهُم فيها؛ وها بعد قرنين من الزمن، كُلُّ شيءٍ في فنادق القاهرة يحدثُ كما لو أنَّ الدرسَ المستقى من تلك الأشياء لم يَنَلْ آذاناً صاغية· فَهَلْ هُو فشلٌ لِـرفاعة ولِخَلَفِهِ؟
الملاحظة الثانية لرفاعة، وهي مكرورة، لأنّ الموضوعَ كان يَشْغَلُ، بِوُضوح، هذا الرجل الشابّ الوَرِعَ والعفيف البالغ من العمر الخامسة والعشرين سنة، بِقَدر ما كان يشغل مصر، وهو مكانةُ النِّساء في المجتمع الفرنسي· ولم تكن النساءُ حاضرات فقط في الفضاء العمومي، بل وكنّ يظهرن، في نظر الإمام عارياتٍ تقريبا· إن غياب الحجاب على الرأس ما كان ليصدمه، لأنه كان يعتقد أن القرآن لم يحرمه؛ وحين عاد إلى مصر لم ينصح به· أما الأذرع العارية والصُدور الموهوبة، فقد كانت تضايقه، ولكنه لم يُصْدِرْ ردّا مُنافقا، فقد وَجَد الكثير من السحر لدى النساء الفرنسيات· فقد كان اهتمامه ينصب على شيء آخر، هل هنّ عفيفات؟ بعد ست سنوات من إقامته في باريس، استنتج رفاعة، ودون أن يكشف لنا طريقتَهُ ومنهجه في البحث، بأن الفرنسيات لسن لا أقل ولا أكثر عفة من المسلمات، وبأن طريقة اللباس لا دخل لها في الموضوع· لقد اعتبر أن النساءَ عفيفاتٌ في البرجوازية وفي الطبقات المتوسطة؛ أما لدى الأرستقراطيين فإنّ الأمر أقلّ خفة شيئا ما، حيث أن الأزواج لا يُبدون أدنى غيرة· وهو أمر أثار دهشته· وأخيراً، فيما يخصّ قاع المجتمع في باريس فقد بدا لرفاعة أنّها من الأماكن التي لا يُنصَحُ بزيارتها كما هو حال مثيلتها في القاهرة· وما عدا هذا التصنّع للوقار المتغيّر لدى النساء الفرنسيات، فقد كان مُعجبا لكونهنّ متعلمات، بل إنه، وكما كَتب، كان معجباً ببحثهنّ عن المعرفة·
فيما يخص مقاهي ونساء باريس، فالأمر، هنا، لا يتعلّق إلاّ بإشارات ومستملحات ثانوية إذا لم تستبق العمل اللاحق لرفاعة حين سيصبح المهندس الكبير لمصر الحديثة، وباني أهراماتها المعاصرة، أي الإدارة والجامعة والصحافة·
بفضل نصائح رفاعة ستتبنى الإدارة المصرية الجديدة اللغةَ الفرنسيةَ، التي اعتبرها أكثر دقة من اللغتين التركية والعربية بعد أن استنتج الدور الكبير للصحافة في فرنسا، قام بتأسيس أول جريدة مصرية، من أجل تهيئة العُقول من أجل التجديد، وهي الجريدة الرسمية؛ وهو من خلال ابتكاره للصحافة، ابتكر قرّاءً جددا بجانب قراء القرآن، بداية لنخبة علمانية ولأنتلجنسيا مصرية، الأولى في العالم العربي· ولكن محمد علي كان يريد قبل كل شيء امتلاك المدافع والمصانع؛ وفي الخطابات التي كان يبعث بها إلى رفاعة، كان الباشا يَحمِل بِعُنف على أفراد البعثة، التي كان يعتبرها، في هذا الميدان، غير نشطة بما فيه الكفاية· فكان رفاعة، الذي كان يخاطب الباشا في مراسلاته بـسيد الفضائل، يحاول إقناعه بأنه من الأفضل المعرفةُ المسبقةُ للعلوم والتقنيات كي يستطيع تحديث مصر بعدئذ، ثم صناعة واستخدام المدافع·
وحسب رفاعة فكلّ شيء موجودٌ في الكتب، ويكفي ترجمتها· فَشَرَعَ في عمل جَبَّار في ترجمة أهمّ الآثار العلمية الفرنسية إلى اللغة العربية، بما فيها كتب مُوجَزَة وموسوعات الجغرافيا والفيزياء وعلم الفلك· ولكنه لم يتصدَّ لترجمة الفلسفة· وحين عودته إلى القاهرة افتتح أول مدرسة لدراسة اللغات الأجنبية، بطريقة تسمح لهُ توسيعَ حقل الترجمات· وطوال حياته المهنية في الإدارة، اختارَ، بنفسه، الأعمال القابلة للترجمة حَسَب فائدتها ومنفعتها لتحديث البلد·