كتاب " أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون ، تأليف غي سورمان ، ترجمة مرام المصري ، والذي صدر عن دار المؤسسة
أنت هنا
قراءة كتاب أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أبناء رفاعة الطهطاوي - مسلمون وحداثيون
هل يمكن مُمارسةُ النقد في أرض الإسلام؟
بالإضافة إلى انضمامه إلى الاستبدادية المتنورة، ألَمْ يَرتكِبْ رفاعة هفوة ثانية ما زالت تثقل على كاهل مصر، والتي ما كان يستطيع، بدون شكّ، أن يتجنَّبَها؟ هذه الهفوة ناتجة عن التعريف نفسه بمهمته· فلنتذكَّر أنّ الباشا كان مقتنعا من أن الغربيين بحوزتهم أسرار تقنية يجهلها المسلمون· فكان يتصور أنّه يكفي ترجمة هذه الأسرار لِغَرْسِهَا في مصر· لم يستطع رفاعة أن ينقذه من هذا الخطأ· فلا الباشا ولا رفاعة تَسَاءَلا عن المسلك-التاريخي، الدينيّ، السياسيّ-الضروريّ الذي قاد إلى هذا التفوق التقني؛ ففي العالَم الذهنيّ لرفاعة وللباشا لا يمكن أن نتَوَجَّهَ إلى التقنية عبر طريق أخرى ما دام أنّ تفوق الإسلام يتموقَعُ فوق كلّ نقاش· من الأكيد أنّه من المسموح به في التقاليد الإسلامية ممارسة حرية إصدار الحُكْم، ولكن في إطار القرآن، الذي هو مصدرُ كلّ معرفة؛ ومن الأفضل عدم مساءلة طابعه المُنَزَّل إذا ما أَرَدْنَا تجَنُّبَ التكفير وكذلك تجنب الشريعة التي تعاقب عليه بالحدّ الأقصى·
العقل النقدي، في العالَم الإسلامي، محاطٌ بِجدارٍ لا يوجد في التقاليد الغربية· والدولةُ وقوانينُها في أرض الإسلام تنبع من القرآن، وخِلافاً لما يُوجد في العالَم الغربي الذي انوجدت فيه القوانين والدولة قبل الأناجيل· إن هذه الثنائية التاريخية والثيولوجية في الغرب المسيحيّ أتاحت ظهور نقد خارجي للدين، بينما يجعل مبدأ الوحدة القرآنية هذا النقدَ كافراً في أرض الإسلام· إن النقد في الغرب وقبل أن يصبح نِظاماً مستقلاّ، ابتدأ عبر كونه قطيعة مع الدين؛ أما في الشرق، فالإسلام عبر وضعه في مقام فوق النقد، فمن أين سيبدأ النقد مَسارَهُ؟ وفي غياب مثقفين أحرار، من أين سيمرّ؟
إنّ وجود علاقة مباشرة بين المؤسسات المسيحيّة والعقل العلمي الغربي من الصعب تصوُّرُها بل ومن الصعب التعبير عنها من وجهة نظر مسلمة· العلوم الإسلامية تسمح بالتعليق على الوحي وبتأويله بطرق متعددة، ولكن الحديثَ عن طبيعة غير إلهية للقرآن أو أن الله غيرُ موجود أو التساؤل عما إذا كان العالَمُ يمكن أن يوجد من غير إله، هي صياغاتٌ ما زالت مستبعدَةً في الإسلام في وقتنا الراهن· إنّ سرَّ الغرب الذي يبحث عنه رفاعة لا يتعلّق بالترجمة؛ إنه مرتبطٌ بالشكّ· وهو ما عبّر عنه، بوضوح، مُفكِّرٌ آخَر من مفكري الحداثة في الإسلام، جمال الدين الأفغاني، وهو فارسي شيعيّ عاش في نهاية القرن التاسع عشر في القاهرة وباريس؛ في سنة 0 8 8 1 كتب أنّ غزو البلدان الإسلامية من قِبَل الغربيين ميتافيزيقيٌّ ولكن بالنسبة للمسلمين الذي يُمارِسون الشَكَّ-وبطبيعة الحال يوجد بعض منهم-، فإنّ الشكَّ النقديَّ أو القلقَ الميتافيزيقيّ، اللَّذَيْن يَظَلاَّن من المسائل الخاصّة، لا يستطيعان أن يَقُودا إلى التجديد الجماعي؛ إن التفكير النقديَّ القابع في داخليّة النفس لا يعثر على طريق داخل المجتمع·
إنّ هذا الابتعاد عن النقد في المجتمعات الإسلامية، وبشكل خاص في مصر، يترك آثاراً ظاهرة في التعليم· والتعليمُ في نظر غالبية المصريين هو حفظ القرآن عن ظهر قَلْب· وإذا كان رفاعة هو المؤسس لحقّ الجميع في التعليم، فإن تعميم التعليم بدا له أكثرَ أهمية من البيداغوجيا· غير أنّ ما يُدهِشُ في مصر، بعد مرور قرن ونصف، هو طبيعةُ هذا التعليم، أكثر من تعميمه· المدَارِسُ المصرية تشتغل بنفس نموذج السّلطة الأُستاذيّة كما هو الشأن بالمدارس القرآنية؛ وهي مدارس تعتمد على الحفظ كما هو حال المدارس القرآنية· والحفظ هنا يغلب على التفكير الشخصيّ؛ والعقل النقدي هو الغائب الأكبر في أغلب الأحيان·
القرآن والاستبداد: الجامعات العمومية المصرية هي الأخرى تم تأسيسُهَا على نفس مبدأ سلطويّ يَحْرِم الطالِبَ من التشكيك في أستاذه، بله طرح الأسئلة· وبغضّ النَّظَر عن وجود استثناءات نادرة، فالجامعاتُ لا تُساهِم لا في النقاش ولا في النقد، وهو ما يُرْبِكُ التدريس العلمي بشكل خاصّ· هذا الأخير لا يمنح أي مكان لا لتاريخ العلوم ولا لِعِلم المعرفة(الإبيستمولوجيا)؛ الأشياء الحاضرة الوحيدة هي نتائجُ البحث، على إيقاع ثُنائي: هذا صحيح، هذا خطأ· ولا يتمّ أبداً شرحُ أن الحقيقة تَنْتُج عن التلمُّس، وبأنها، أي الحقيقة، مُؤَقَّتَةٌ وبالتالي يمكن التشكيكُ فيها من قِبَل نظريات لاَحِقَة· إن مُدَرِّسي العلوم ، وهُمْ في كثير من الأحيان جامعيّون وَرِعُون، يُصِرُّون على التَّطَابُق الكامل بين هذه الحقائق العلمية والقرآن؛ وحينما ينبثق تَنَاقُضٌ ما، كما هو الحال في البيولوجيا، فهم يذهبون للبحث في هوامش المعرفة عن بعض نظريّات الخَلْق التي تَتَنَاسَبُ مع القرآن· إنّ هذه البيداغوجيا غير العلمية للعلم توضح، ربما، الظاهرة المدهشة التي يمثلها المهندس الإسلامي، فهذا الشخص الذي تمّ تدريسه وفق المنهج الثنائي، والمُولَعُ بالتقنيات الغربية ولكنه دوغمائيّ في نفس الآن، أصبح إحدى الصُوَر الرمزية للإسلامويّة المعاصرة·
القليلُ من الإصلاحيين، في العالم العربي الإسلامي، يتساءلون حول هذه العلاقة بين التأخر الاقتصاديّ والبيداغوجيا· فـمحمد شرفي، وزير التعليم التونسي في سنوات الثمانينات، وأحد المثقفين العرب القلائل، رأى أنّ البيداغوجيا هي التي سَتُحَدِّدُ المستقبل العربي· صحيح أن تونس هي إحدى الدول الإسلامية القليلة التي تُرَسِّخ في المدرسة العقلَ النقدِيَّ، سواء تعلّق الأمرُ بتلقين القرآن أم بالعلوم الحديثة· وهو تقليدٌ يعود إلى إصلاحات الوزير الأوّل خير الدين في سنة 5 7 8 1؛ لقد فَهِمَ هذا الأخيرُ بأنه إذا لم يتمّ تدريسُ القرآن بطريقة حديثة، فإنه لن يكون مكان لأيّ إصلاح· بعد أن فشل في تحديث جامعة الزيتونة، أنشأ بجوارها مدرسة الصديقي، على طريقة التدريس النقدي والعلمي الذي كان موجودا في أوروبا· ستصبح مدرسة الصديقي أوَّلَ منبت للنُّخَب التحديثية بينما ظلت الزيتونة مثل الأزهر في القاهرة، معقل الفكر التقليديّ· والجمهورية التونسيّة مَدِينَةٌ، دونما شكّ، في تحرُّر المرأة الملحوظ وإلى تقدمها الاقتصاديّ، إلى التعليم في الصديقي
السرّ الذي جاء رفاعة إلى باريس من أجل البحث عنه، لا يوجد تحديدا في المكان الذي تصور أنه سيجده فيه؛ لم يَكُن يَكفيه فقط ترجمَةُ بعض المُؤَلَّفَات، بِقَدر ما كان يتوَجّبُ عليه أن يَقومَ من جديد بإعادة المسعى الذي قاده إلى هذا· وكما يقول أحد أبنائه البعيدين، الفيلسوف المصريّ حسن حنفي، فإنّ رفاعة لم يقم بتأسيس الاستغراب، أي دراسة الغرب، والتي هي مقابل للاستشراق، الذي يُسيءُ، في نظره، بشكل دائم للمسلمين· ومن خلال التَحَصّن خلف التقاليد، فإن رفاعة حَكَم على مصر بالتمثّل والمحاكاة· وهنا مثالٌ نقتبسه من التاريخ الاقتصادي:
في سنة 5 3 8 1 قرَّرَ الباشا خلق صناعة النسيج في مصر؛ فاستورد من بريطانيا العظمى الآلات الأكثر فعالية التي كانت متوفرة في السوق لنَسج القطن· كانت مصر حينها تُنتِجُ أفضل قطن خامّ في العالَم، وبالتالي فقد كان بدا أن الإجراء الصناعي الذي اتَّبَعَه محمد علي كانت له قاعدة رصينة· السنوات الأولى تُوِّجَتْ بالنجاح، ثم تعطّلتْ بعدها الآلاتُ؛ فقد كانت مقاومةُ هذه الآلات لِمناخ مصر سيئةً كما أنها لم تَخْضَعْ لأعمال صيانة· وقد حمّل الباشا البريطانيين مسؤولية هذا الفشل اللاّذع· كان أكثرَ إراحةً اختلاقُ فرضيّةِ مؤامرةٍ من التساؤل عن قابلية مسعىً تَجَاهَلَ تكوين المهندسين ورؤساء أوراش كفيلين بِتَعَهُّد الحقل الصّناعيّ· في مواجهته للحداثة في الغرب، لم يَقُم الباشا إلاّ بالتقليد، خاضِعاً لمسعى اقتصاديّ مُوازٍ للمحاكاة الثقافية لدى رفاعة·
إنّ سوء الفهم هذا، وبعيداً عن أن ينْقَشِعَ في العالم العربي، سيتَضَاعَفُ في القرن التالي، وإلى حدود أيامنا هذه ما زلنا نجد سهولة في إلقاء مسؤولية فَشَل الصناعة المصرية على عاتق الإمبريالية الغربية بدلاً من توجيهها صوب الإهمال المحليّ·